للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ببغض شهود الزنا والبراءة منهم إذا قصر عددهم أو اردت شهادتهم والحكم بفسقهم إن كانوا كذبة عند الله (١)، مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله بمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه، لأن العداوة متضمنة للكفر به ويمكن أن يكون الله تعبدنا (٢) بذم الفاسق ولعنه محبة له (٣)، فيكون ردعا له عن فسقه لا لكونه مستحقا للتخليد في النار (٤).


(١) في النسختين الجملة هكذا (أوردت شهادتهم إن كانوا والحكم بفسقهم كذبة عند الله) والخلل فيها ظاهر لأنه أدخله جملة (والحكم بفسقهم - بين أن كانوا كذبة عند الله) والجملة الصحيحة ذكرها الباقلاني في التمهيد ص ٤١١. والمقصود هنا هو أن البراءة من شهود الزنا وبغضهم مشروط بكونهم كذبة عند الله.
(٢) (تعبدنا) ليست في الأصل وهي في - ح -.
(٣) في الأصل (لهم) وما أثبت من - ح -.
(٤) المصنف - رحمه الله - عن قول المعتزلة بجواب صحيح والسؤال والجواب هنا منقول من التمهيد للباقلاني مع تغيير لبعض العبارات، وهذا جعل المصنف يقع في أقوال باطلة لا تتفق مع ما دل عليه الشرع في هذه المسائل فلهذا نبين هنا الحق في هذا.
فالجواب عن استدلال المعتزلة هو أن يقال: إن هذا الكلام هو عمدة من أوجب على مرتكب الكبيرة الخلود في النار، وذلك أنهم ظنوا أنه لا يصح أن يجتمع في الإنسان إيمان وكفر ولا طاعة ومعصية حيث زعموا أن الإيمان شيء واحد متى زال بعضه زال كله، وبناءا عليه أنكروا أن يجتمع في الإنسان طاعة ومعصية لأن أحدهما تقابل الأخرى، وهذا باطل لأن الإيمان مركب من أجزاء وزوال بعضها لا يلزم منه زوال الكل، ويضرب لذلك مثال الشجرة فإنه إذا زال منها بعض الأغصان لا يزول عنها الاسم بل يبقى الاسم وإنما يزول عنها اسم الكمال لأنها أنقص من غيرها، بل ذكر شيخ الإسلام أن سائر المركبات من هذا النوع لا يلزم من زوال بعض أجزئها زوال الاسم عنها. وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وطاعة ومعصية، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اخلف وإذا خاصم فجر". أخرجه خ. الإيمان وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (ب علامة المنافق ١/ ١٢ م. الإيمان (ب. خصال المنافق ١/ ٧٨ وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية" أخرجه خ. الإيمان (المعاصي من أمر الجاهلية ١/ ١٢. أخرجه م. الإيمان (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم) ١/ ٨١ في حديث أبي هريرة: " ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ". أخرجه م. الإيمان (ب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة) ١/ ٨٢. وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المعصية لا تنافي الإيمان، وإنما تنافي كماله، وتبعا لهذا فإن الإنسان قد يكون محبوبا من وجه ومبغضا من وجه فيحب لما عنده من الطاعة ويبغض لما عنده من المعصية. ومن الدليل الواضح على هذا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم إلعنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله". هكذا ورد في رواية البخاري المطبوع وقد ورد كما ذكر الحافظ في روايات أخرى للصحيح "فول الله ما علمت إلا أنه يحب … " وله لفظ آخر ورد عند غير البخاري وهو " فإنه يحب الله ورسوله ". فتح الباري ١٢/ ٧٨. خ. الحدود (ب ما يكره من لعن شارب الخمر) ٨/ ١٣٣، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه لاتصافه بصفات صالحة وهي حب الله ورسوله، فهو يحب لهذا الوجه ويبغض من وجه آخر لمعصيته.
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن صاحب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فقد يكون مرحوما من أول وهلة ولا يعذب، وقد يعذب ويغضب عليه في أول الأمر ثم يخرج وصاحب الكبيرة لا يكون الأمر بالنسبة إليه على وتيرة واحدة كالمؤمن الصادق أو كالكافر، بل هو محتمل الأمرين لأنه خلط الصالح بالسيئ، فقد ترجح له حسناته فينجو وقد ترجح سيئاته فيعذب حتى يطهر من هذه السيئات ثم يخرج وهذا من عدل الله ورحمته. ولا يجوز إطلاق أن الفاسق عدو لله متبرأ منه لأن هذه الأمور بالنسبة لمن معه أصل الإيمان على حسب ما يرتكب من الأعمال السيئة، فعداوته لله نسبية وليست مطلقة كعدواة الكفار، وكذلك الأمر بالنسبة له في الآخرة فما دام أتى بأصل الإيمان فإنه ستصله الرحمة إما مباشرة وإما بعد أن يتطهر من ذنوبه بالعذاب الذي يحكم الله به عليه.
وهذا التعميم من المعتزلة بأن الفاسق عدو لله هو موطن الخلاف بيننا وبينهم، فالأدلة الشرعية على خلاف قولهم ف حكمه في الدنيا وحكمه في الآخرة، وسبب ضلالهم في هذا أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، أما أهل السنة فإنهم أخذوا بالنصوص كلها واستظهروا الحق من مجموعها فهداهم الله إلى أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ليس خارجاً من الإسلام وفي الآخرة أمره إلى الله عز وحل.
أما قول المصنف في جوابه "إنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له … " الخ. هذا كلام غير صحيح، فإنه تضمن نفي صفات الباري جل وعلا بالغضب والرضا والحب والكره لجنس الأعمال الواقعة من العباد، وإنما الغضب اتصاف والرضا والحب والكره يتعلق بذوات الأشخاص فمن علم الله موته على الكفر فهو المبغض، ومن علم الله موته على الإيمان فهو المحبوب، وقد دلت الأدلة الشرعية على خلاف هذا وهو أن الله يرضى ويحب ويفرح عند وقوع الفعل من بني آدم، ويغضب ويكره عند وقوع الأفعال الموجبة لذلك من بني آدم. ومن الأدلة الواضحة في هذا قوله عزوجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فحدد الرضا جل وعلا هنا بوقوع المبايعة من المؤمنين، وقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل شرط محبته جل وعلا اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
وكذلك ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله" أخرجه خ. منافق الأنصار ٥/ ٢٧، م. الإيمان ١/ ٨٥. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" أخرجه ت. في البر والصلة ٤/ ٣١٠. فهذا يدل على أن السخط والرضا تبع لسخط الوالد ورضاه. وكذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " أخرجه حم ٢/ ٧٠، د. في الأقضية ٢/ ١١٧، جه. في الحكام ٢/ ٧٧٨.
وكذلك الآيات القرآنية كقوله عزوجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فمن اتصف بهذه الصفات لا يحبه الله عز وجل ما دام متصفا بها، فإذا قلع عنها إلى ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأفعال أحبه الله عز وجل.
فهذه كلها تدل على عدم ارتباط الحب والبغض بالخاتمة كما هو كلام المصنف - رحمه الله - هنا، ثم إن هذه الصفات وهي الحب والبغض والغضب والرضا من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، والمصنف - رحمه الله - هنا زعم أن هذه الصفات هي إرادة الثواب أو إرادة العقاب، وهذا تأويل الجهمية والأشعرية، كما أن الأشاعرة ومن تابعهم يزعمون أن الإرادة قديمة وهذا باطل، فقد دلت الأدلة على أن الإرادة ليست قديمة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقوله عزوجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله عزوجل {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهذه الأدلة صريحة في أن الإرادة هي التي تسبق وقوع الفعل، ولو كانت الإرادة كما زعموا قديمة لوجب وجود الأشياء في القدم وهذا باطل، بل الإرادة قديمة النوع حادثة الأفراد.
كما دلت الأدلة على أن صفة الحب والبغض والغضب والرضا ليست قديمة بل هي تتعلق بالمشيئة والاختيار. يدل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجه خ. في الرقاق ٨/ ٩٧، م. صفة الجنة ٤/ ٢١٧٦، وكذلك ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة أن آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء يقولون: " إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " أخرجه خ. في الأنبياء ٤/ ١٠٧، م. في الإيمان ١/ ١٨٤.
فهذا يدل على أن هذه الأمور تقع بمشيئة الله في الوقت الذي يشاء ربنا جل وعلا، وتدل على أن كلام المصنف - رحمه الله - في هذا كلام باطل لا دليل عليه، وهو في هذا أتى من أخذه لكلام الباقلاني على علاته بدون تمحيص، مع أنه - رحمه الله - أثبت لله عز وجل الصفات الفعلية كالكلام والنزول والاستواء مما لا يثبته الأشعرية، والله أعلم.
وقول المصنف: "مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله لمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه لأن العداوة متضمنة للكفر له".
هذا القول ليس على إطلاقه، لأن مرتكبي الكبائر فيهم عداوة لله بحسب جرمهم، ولكنها لا تكون كعداوة الكافر، وقد نص الله عز وجل على هذا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمحاربون أعداء لله، مع أنهم لا يكفرون لهذا، وعدواتهم لله ليست كعداوة الكفار بل عداوتهم بحسب جريمتهم.
وقول المصنف: " ويمكن أن يكون الله تعبدنا بذم الفاسق ولعنه محبة له .... " الخ. الصحيح أننا لم نتعبد بلعن الفاسق المعين قال النووي - رحمه الله -: " اتفق العلماء على تحريم اللعن لأنه يعني الإبعاد والطرد من رحمة الله، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". شرح مسلم ٢/ ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>