للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب: أن نقول: إن السارق والزاني يفارقهما إيمناهما حين السرقة وحين الزنا، ثم يرجع إليهما لأنه روي أنه قال: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

ويحمل أنه عبر ذلك عن نقصان إيانه، ويحتمل أنه أخرجه مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن هذه المعاصي كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (١)، و"ولا إيمان لمن لا أمانة له" (٢)، (٣).


(١) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة ١/ ٢٤٦، والدار قطني في سننه ١/ ٤٢٠ من حديث جابر - رضي الله عنه -، وقال في التعليق المغني: "فيه محمد بن مسكين"، قال الذهبي: "لا يعرف وخبره منكر" وضعف الحديث العقيلي.
كما روي عندهما من حديث أبي هريرة وفيه سليمان بن داود اليمامي. قال بن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". انظر: التعليق المغني على الدار قطني ١/ ٤٢٠، وضعف الحديث الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة ١/ ٢١٧.
(٢) أخرجه حم. ٣/ ١٣٥، ١٥٤، والبغوي في شرح السنة ١/ ٧٥، وابن أبي شيبة في الإيمان ص ٥ من حديث أنس - رضي الله عنه -. وحسن الحديث البوصيري، وكذلك الألباني في التعليق على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة ص ٥.
(٣) الذي تقرر عند السلف أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وسيأتي تقريره من كلام المصنف وأن المسلم لا يكفر بارتكاب كبيرة، ولا يخرج من الإسلام بفسق.
واختلفوا في بيان معنى الأحاديث الواردة في مرتكبي الكبائر بنفي الإيمان عنهم. فالذي عليه كثير من العلماء أن المنفي هو كماله، وبعضهم يمر الروايات كما جاءت من غير تعرض لتأويلها ليكون أبلغ في الزجر، وهو مروي عن الزهري. وكذلك الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر إلى كثير من السلف.
أما الحديث المذكور هنا "لا يزني الزاني وهو مؤمن". فمنهم من قال: إن المنفي عنه هنا الكمال الواجب، وهو قول أبي عبيدة في كتابه الإيمان، ومنهم من قال: يرتفع عنه حال الفعل لورود الحديث بلفظ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ويؤيد ما ورد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". أخرجه د. كتاب السنة (ب زيادة الإيمان ونقصانه) ٢/ ٢٧٠. والحاكم في المستدرك ١/ ٢٢، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وهو قول مأثور عن ابن عباس وعطاء وطاووس والحسن والإمام أحمد - رحمهم الله تعالى -.
ومنهم من قال: إنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وهو مروي عن أبي جعفر الباقر، ورواية عن الإمام أحمد.
أما قول المصنف هنا يحمل على التغليظ والمبالغة في الزجر، فقد نسبه ابن حجر إلى الطبي، واستنكر هذا القول أبو عبيد في كتابه الإيمان، لأنه يؤدي إلى أن يجعل الخبر عن الله وعيداً لا حقيقة له.
وأرجح الأقوال في هذا القول الأول بدلالة اللغة عليه، وإجماع العلماء على عدم كفر مرتكب الكبيرة، قال النووي - رحمه الله -: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الأبل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرنا لحديث أبي ذر وغيره: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح والمشهور: "أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يعصوا. . . " إلى آخره، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: "فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى عفا عنه وإن شاء عذبه"، فهذان الحديثان ونظائرهما في الصحيح مع قول الله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء آية ٤٨ مع إجماع أهل الحق أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا أقسطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهراً وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا. ثم ذكر - رحمه الله - الأقوال السابق ذكرها عن العلماء في وجه معنى الأحاديث شرح مسلم للنووي ٢/ ٤١ - ٤٢ وهو موجود على هامش نسخة - ح - بنصه من شرح مسلم، ونظر في هذا: الإيمان لأبي عبيد ٨٤ - ٩٨، فتح الباري ١٢/ ٦٠ - ٦٢، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص ٣٠٦ - ٣٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>