[مآل وجزاء عباد الرحمن وسبب ذلك]
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [الفرقان:٧٥] أي: الذين ثبتت صفاتهم وظهرت أعمالهم واتضحت معالمهم ومعتقداتهم.
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]، والغرف في أعالي الجنان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء؛ لتفاضل ما بينهم.
قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد غيرهم؟ قال: كلا، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن أبا بكر وعمر منهم) رضي الله تعالى عنهما، نسأل الله أن يلحقنا وإياكم بهم.
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]: صبروا على ماذا؟ صبروا على التكاليف التي كلفهم الله بها، صبروا على جهل الجاهلين، صبروا على عبادة ربهم، صبروا على طاعة الله، صبروا على الجوع، صبروا على الخوف، صبروا عند البأساء وعند الضراء وحين البأس، أعرضوا عن اللغو، وصبروا على أذى المؤذين وجهل الجاهلين.
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:٧٥] بماذا؟ هل بالأماني أم بالأعمال؟ قال تعالى: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:٧٥]: رجل ترك فراشه الدافئ وزوجته الحسناء، وامرأة تركت فراشها وزوجها، والكل قام يصلي لله رب العالمين، الكل قام يسبغ الوضوء على المكاره، طالباً رضا الله سبحانه وتعالى، الكل يقتطع من ماله وينفق ابتغاء وجه الله، كل ذلك يُفْعَل سراً لا جهراً ولا رياءً ولا سمعةً، إنما يُبْتَغى بذلك وجه الرب الأعلى سبحانه وتعالى.
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:٧٥] تحيةً مِن مَن؟ وتسليماً مِن مَن؟ قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٨]، وقال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} مسلِّمين قائلين: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:٢٤].
سلام من الله، سلام من الملائكة، سلام من الأنبياء.
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:٢٥ - ٢٦].
{وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} [الفرقان:٧٥]: كل ذلك -بعد توفيق الله- بصبرهم، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:٢٤].
وكما قال تعالى عن الخليل إبراهيم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:١٢٤]: قام بهن خير قيام، صبر على النار إذ ألقي فيها، وصبر على ذبح ولده إذ أُمِر بذبحه، وصبر على الختان إذ أُمِر بالاختتان وهو ابن ثمانين سنة، فاختتن بالقَدُوم، آلةِ النجار المعروفة، وصبر على لقاء الجبابرة، وصبر على بناء الكعبة، صبر على خصال الفطرة، فالله قال له بعد هذا الصبر: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:١٢٤].
وهكذا عباد الرحمن {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً * خَالِدِينَ فِيهَا} [الفرقان:٧٥ - ٧٦] أي: لا يتحولون عنها أبداً، {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:١٠٨].
{خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان:٧٦]: نِعْم المقر ونِعْم المقام.