للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أول وصايا لقمان لابنه]

بدأت استهلالات تلك الموعظة، بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} [لقمان:١٣] أي: واذكر أيها الذاكر، واذكر يا رسول الله، واذكر يا من تتلو كتاب الله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، هذه أولى وصايا لقمان عليه السلام وأولى وصايا الأنبياء، وآخر وصاياهم كذلك، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٣].

وفي وصيته أيضاً قال الله تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢]، فبدأ لقمان في وصيته محذراً من الشرك الذي يحبط الأعمال جميعها، قائلاً: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣].

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:١٤]، ولم يجر هذا على لسان لقمان لحكمة بليغةٍ إذ هو الذي يعظ، فلا يعظ لتعود عليه عائدة من وعظه، حتى لا يُفهم أمره على غير وجهه، فجاءت الوصية بالوالدين من غير لقمان وهو الله تعالى.

قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:١٤]، جاء بالتذكير بالوالدة بعد الوالدين؛ إذ هي أحق الناس بحسن الصحبة -كما قال صلى الله عليه وسلم- وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.

قال: ثم من؟ قال: أمك.

قال ثم من؟ قال: أمك.

قال ثم من؟ قال: أبوك).

والوصايا بالوالدين تكررت كثيراً في كتاب ربكم، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦].

وفي الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها.

قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، فَقُدّم بر الوالدين على الجهاد معشر الكرام، وكذا في أبواب الجرائم، في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قيل: الشرك بالله، قال: ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين.

وكان متكئاً فجلس.

فقال: ألا وقول الزور.

ألا وقول الزور.

ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، فبر الوالدين عملٌ يستشفع به لدفع البلايا والمصائب، وتعلمون أن الثلاثة أصحاب الغار فرّج عنهم بأعمالهم، وكان عمل أحدهم بره بوالديه، وأويس الذي كان به برص دعا الله فشفاه من البرص بسبب بره بوالدته، والنصوص في هذا متظافرة متكاثرة.

قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:١٤] أي: ضعفاً على ضعف، قال تعالى: {وَفِصَالُهُ في عامين} [لقمان:١٤] أي: وفطامه في عامين، وهو آخر أمد من الرضاعة كما قال الجمهور من العلماء، فكل رضاعةٍ بعد الحولين لا تحرم على الصحيح من قول الجماهير.

قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:١٤]، فقدم شكراً -أيها المرء- لربك، ثم قدم شكراً لوالديك.

ثم قال تعالى مبيناً أمراً: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥]، فطاعة الله فوق كل طاعة، ثم طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام من طاعة الله، وهي فوق كل طاعة كذلك، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:١٥]، فقد أسلم سعد وكان من السابقين رضي الله عنه، وأبت أمه إلا الكفر، فدعته فقالت له: يا سعد: يا بنيّ: ما هذا الدين الذي اعتنقت؟ -وكان بارّاً بأمه- لتراجعن نفسك، ولترجعن عن دينك أو لأمتنعن عن الطعام وعن الشراب حتى أموت فتعيّر ويقال لك: يا قاتل أمه.

فقال لها سعد: يا أمي! لن أرجع عن ديني -إن شاء الله- ما حييت، فامتنعت عن الطعام يوماً وليلة، فأصبحت وقد أجهدت، ثم واصلت الامتناع يوماً آخر وليلة، ويوماً ثالثاً وليلة، حتى كانوا يفتحون فمها بالقوة ويصبون لها الطعام والشراب، ففي بعض الروايات عند الطبراني أنه قال: والله -يا أميّ- لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفسا ما تركت دين محمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فأكلت.

وفي ذلك نزلت: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:١٥]، فلا طاعة في معصية الله، ولكن مع ذلك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥]، ثم قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:١٥] أي: اسلك سبيل الصالحين، اقتفِ آثار الصالحين، اعمل كعمل الصالحين، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠]، وكما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥]، فللمؤمنين سبيلٌ ينبغي أن يُسلك.

يقول تعالى: {ثم إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:١٥]، أي: مرجع المطيعين وكذا مرجع العصاة، وإليّ مرجع الآباء وكذا مرجع الأبناء، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).