بعد التلبية تشد الرحال إلى بيت الله الحرام الذي قال الله فيه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}[آل عمران:٩٦] فليس هو بيت المقدس كما زعم الإسرائيليون، إنما كما قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:٩٦] كي يعبدوا فيه ربهم ويتقربوا إليه، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع للناس أول يا رسول الله؟ قال:(المسجد الحرام، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وحيثما أدركتك الصلاة فصل) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}[آل عمران:٩٦] وجه البركة فيه: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم إن إبراهيم دعا لمكة أن تبارك في مدها وفي صاعها، وأنا أدعوك للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة: أن تبارك لنا في صاعنا وفي مدنا وفي ثمرنا، وأن تجعل لنا ضعف ما لمكة من البركة) هذا وجه من البركة.
ووجه آخر: أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
ووجه ثالث: أن به زمزم، وهي:(طعام طعم وشفاء سقم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه رابع: أن من دخله كان آمناً، فمكة لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يُختلى خلاها، ولا يقطع فيها الحشيش الذي ينبت على الأرض، وكل هذا من تحريم الله سبحانه وتعالى لمكة، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:٩٦] به تهتدي، {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}[آل عمران:٩٧]، أي: دلالات واضحات.
ما هذه الدلالات؟ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}[آل عمران:٩٧] فيه مقام إبراهيم، ففي هذا المقام تتذكر أئمة الهدى الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، فلكل فريق إمام، سواءً كان كافراً أو مؤمناً، ونحن أهل الإيمان أئمتنا أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فعليهم نصلي ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي، وعلى دربهم ونهجهم ومعتقدهم نسير، قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:٨٣ - ٩٠]، هؤلاء الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، وهم سلفنا وأئمتنا، وأكبر أئمتنا هذا الرهط الكريم المبارك، ثم خاتمتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أئمتنا نصلي عليهم ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي صلوات الله وسلامه عليهم.
فنتذكر هذا الموكب الكريم الذي سبقنا بإحسان وببر وبصلاح، وختم حياته بخير، متجهاً إلى ربه، لقد ماتوا على التوحيد الذي اصطفاه الله لهم واختارهم له، وأوصونا جميعاً به، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة:١٣٢]، ونتذكر أئمتنا الذين حلوا ونزلوا بهذه المواطن الكريمة، والذين طافوا حول الكعبة، والذين سعوا بين الصفا والمروة، الذين فُجرت لهم زمزم، الذين صلوا في مسجد الخيف، فقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، نتذكر هؤلاء الأئمة، ومن ثم نقتدي بهم ونقتفي أثرهم، سائلين الله أن يجمعنا جميعاً بهم عليهم الصلاة والسلام.
أما أئمة الضلال فأئمتهم: فرعون، وهامان، وقارون، وأُبي بن خلف، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وثمود، وعاد، وإخوان لوط، فهؤلاء هم أئمة أهل الكفر، فهم يتلاعنون فيما بينهم، أما نحن أهل الإيمان فبيننا تراحم، ونترحم على سلفنا، ونصلي على أنبياء الله ونسلم، ويستغفر لنا بعد موتنا من تبعونا بإحسان إلى يوم الدين، قال نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}[نوح:٢٨] وهذا من محاسن هذا الدين القيم، فمن سبقونا نصلي عليهم ونترحم، ومن يأتون بعدنا يصلون علينا ويترحمون علينا، ثم يوم القيامة نحمد الله على هذا الصنيع، نحمد الله الذي هدانا له وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا إليه، ثم نحمده لإخواننا الذين كانوا سبباً في هدايتنا.
أما أهل الغواية فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:٦٧].