للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[كفارة الغيبة]

نختم البحث في مسألة وهي مسألة التحلل من الذي اغتبناه، فهب أن شخصاً اغتاب شخصاً وعلم بعد ذلك أن الغيبة محرمة كما قد سمعتم، فهل يجب أن يتحلل المغتاب ممن اغتابه، أو يكفي أن يستغفر ويدعو الله له، ويثني بخير عليه؟ يرى الأئمة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة رحمهم الله وقول عن أحمد أنه يجب أن تتحلل من الذي اغتبته وهذا محله -كما حمله العلماء- إذا بلغت الغيبة هذا الشخص الذي اغتيب، وكان من أدلتهم على مسائل التحلل في الأبدان والأعراض، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له عند أخيه مظلمة من عرضه أو من شيء فليتحلل منه قبل ألا يكون دينار ولا درهم) وبحديث: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا).

فاستدلوا بهذا على أن التحلل لازم، وخاصة إذا كانت الغيبة وصلت إلى الشخص الذي اغتيب.

ومن العلماء من قال: إن قياس الأعراض على الأموال والأبدان غير سائغ؛ لأن التحلل من الأموال والأبدان يرجع بفائدة على الذي ضرب، أما التحلل من الأعراض إذا ذهبت إلى شخص وقلت له: أنا اغتبتك فسامحني، فليست كل النفوس تتسع لهذا الكلام، وإنما هناك أناس صدورهم متسعة يفرحون بذلك منك، ويدعون الله لك بالتوفيق وبالمغفرة، وهناك أقوام يدخل لهم الشيطان بضعف في قلوبهم فيسألونك: أمام من اغتبتنا؟ ماذا قلت في حقنا؟ ويفتحون معك مسائل فتشوش أنت عليهم فكرهم، وتزيدهم هماً إلى الهم الذي وقع عليهم بسبب اغتيابك لهم.

ففي هذا المقام ترجع المسألة إلى مسألة المفاسد والمصالح، فحيث رجي من التحلل خير قدمت على التحلل، وحيث لا يرجى من التحلل خير اكتفيت بالثناء الحسن على من اغتبته، والاستغفار له، والتصدق من أجله إن شئت، فكل ذلك عمل صالح يكفر الله به عنك خطاياك، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:١١٤].

فجدير بمن اقترف شيئاً من ذلك منا جميعاً، وكلنا ضعفاء، وكلنا خطاءون كما قال ربنا سبحانه: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:٢٨]، جدير بمن صدر منه شيء من ذلك أن ينظر في أمر نفسه قبل أن يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وقبل أن ترد المظالم إلى أهلها، ثم عليه أن يستغفر الله استغفاراً كثيراً؛ لأن الغيبة تترك أثراً أيضاً على القلوب فتسودها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أذنب العبد ذنباً ينكت على قلبه نكتة سوداء، فإن تاب وأقلع محيت، وإن عاد نكتت نكتة أخرى سوداء حتى تغطي القلب كله -ثم قال-: هذا هو الران الذي ذكر الله في كتابه، وتلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤]).

فأكثروا من الاستغفار فالله غفَّار للذنب والزلات، وصلى الله على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.