للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضرورة انتقاء الألفاظ الحسنة عند التخاطب مع الناس]

انتق الألفاظ التي تتحدث بها، فانتقاء الألفاظ فضل ومنة من الله يمن بها عليك، فالغرض الذي يمكن أن يؤدى بكلمة طيبة فلا تعدل عنها إلى كلمة شديدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقد وردت للسلف في هذا جملة هائلة من الأقوال.

فمثلاً: رجل ضُرِبَ وجيء بك لتحقق، فإذا قلت: أين المضروب؟! وأين الضارب؟! نال منك المضروب مزيد من الإهانة بكلمتك: (أين المضروب) لكن إذا قلت: أين صاحب الحق؟! فحينئذ ترجع للمضروب شيئاً مما فقد منه، والمؤدى واحد.

روي عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بقوم في بيتهم نار، فلم ينادي: يا أصحاب النار! وإنما نادى: يا أهل الضوء! فالمؤدى واحد، ولكن الرفق والتفاؤل مطلوب، والكلمات التي تشعر بإزعاج يجب اجتنابها، ففرق بين أن تقول: يا أهل النور! أو يا أصحاب الضوء! وبين قولك الآخر: يا أصحاب النار! أو يا أهل النار! مع أن المؤدى من هذا ومن ذاك واحد.

مثلاً: رجل متزوج بزوجة على زوجة فلا يستعمل لفظ: الزوجة القديمة والزوجة الجديدة، ولكن له أن يقول: الأولى أو الثانية، أو أم فلان وأم فلان والمؤدى واحد.

فالألفاظ التي تخرج منك ويمكن أن تؤدى وتخرج في ثوب جميل، فأدها في ثوب جميل، والمنتبه لهذا من هداه الله، والموفق من وفقه الله، فإن الله سبحانه يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:٢٤]، فمن الذي هداهم؟ الذي هداهم يقيناً وقطعاً هو الله، وبذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ذلك فيقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).

وأيضاً عليك أن تراعي مناسبات الحديث، فلكل مقام مقال كما قال الناس، بل وكما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسالك، فقد تجد من يذهبون إلى عرس ويذكرون الناس بالموت، ويستدل بعضهم بحديث (أكثر من ذكر هاذم اللذات) والحديث صحيح، لكن المناسبة لا تقتضيه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال ل عائشة - لما قدمت من عرس- يا عائشة!: (ماذا كان معكم من اللهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو)، فانتق مناسبات الحديث، والكلمات التي تصدر منك.

علي رضي الله عنه يقول: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني) لأن سؤال المحارم عما يتعلق بالجماع يؤذي المحارم، ويخدش حياء المحارم، أنت متزوج بفتاة، فكونك تتحدث في الجماع أمام أخيها أو أمام أبيها، أو أمام أقاربها، هذا يخدش -بلا شك- حياء الأخ، ويخدش حياء الأب، ولذلك قال علي: (كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اغسل ذكرك وتوضأ)، فللكلام مناسبة.

وانظر إلى فقه الأنصار وإلى ذكاء الأنصار رضي الله تعالى عنهم، لما وقع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسر، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيداً، وأراد الأنصار أن يتركوا فداء العباس إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقولوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لعمك فداءه، فحينئذ إذا قالوا هذه المقالة، استشعر منها أنهم يمنون ويتفضلون على رسول الله؛ لأن لعمه الفداء، ولكن انظر إلى هذا الأدب الذي تأدبوا به، فقالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا أن نترك لابن أختنا فداءه)، فالأنصار أخوال العباس، فلم يقولوا: ائذن لنا أن نترك لعمك حتى تكون المنة منهم عليه، ولكن قالوا: ائذن لنا أن نترك لابن اختنا فداءه؛ حتى يقلبوا المنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فانتق هذه الألفاظ وتحدث بها بين الناس، والفاهم من فهمه الله سبحانه وتعالى.