[نصوص تبين خطورة اللسان]
كل جوارحنا معبدة لله سبحانه وتعالى، وليس عندنا في الإسلام ما يطلقون عليه حرية الكلمة، بل هو اصطلاح محدث باطل، فليس لنا في الإسلام حرية الكلمة، فكلماتنا في الإسلام مقيدة، فلا تتكلم كما تشاء وتهوى، بل لك شرع تُضبط به، بل ليس لك في الإسلام أن تفكر كما تريد؛ فإن الله سبحانه وتعالى ضبط لنا جوارحنا حتى قلوبنا، قال سبحانه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦]، وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:١٢]، فنحن مقيدون في كل شيء، وعبيد لله سبحانه وتعالى في كل شيء.
فألسنتا معبدة لله سبحانه، لا يترك لها الزمام والعنان تصول وتجول كيف شاءت، وحديثنا في يومنا هذا عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا أشد التحذير من ألسنتنا، وقد جاءت نصوص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضبط لنا الألسن، قال الله جل ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:١ - ٣]، فليس لك أن تلغو وتتكلم كما تشاء.
ووصف الله أهل الإيمان بقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:٧٢]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: (من صمت نجا)، وقال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال ربنا جل ذكره: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤].
فهذه نصوص تذم كثرة الكلام، فليس لك تحت شعار حرية الكلمة أن تكثر من الكلام، بل الكثرة من الكلام مذمومة لهذه النصوص، ثم إن الكلمات مسطرة مسجلة، قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨]، وقال الحسن البصري في تفسيرها: (حتى قول الرجل لامرأته أو لفتاته وجاريته: ناوليني الطعام ما بال الطعام نقص فيه الملح، ناوليني الشراب، فكل هذا يسطر في الصحائف)، وقال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:٥٢ - ٥٣]، وقال سبحانه: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]، وقال سبحانه: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩]، وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨]، فالكل يسطر، والكل يسجل، والكل يثبت.
ثم إن من الكلمات كلمات تردي صاحبها في جهنم -والعياذ بالله- وهو لا يشعر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يرفعه الله بها درجات، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه -أي: لسانه وفرجه- أضمن له الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال صلوات الله وسلامه عليه لـ عائشة لما تكلمت بكلمة في شأن صفية بنت حيي رضي الله عنها مشيرة بيدها إلى قصرها:: (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).
فكثير من الكلمات تردي صاحبها في جهنم وهو لا يشعر، وكثير من الكلمات تحبط أعمال قائلها وهو لا يشعر، إذ يكون الرجل مصلياً صائماً ذاكراً لله كثيراً فيتكلم بكلمات تذهب بثواب الصلاة وبثواب الصيام وبثواب الذكر، خاصة تلك الكلمات التي فيها اعتراض على الشرع، وتلك الكلمات التي فيها تجريح للأشخاص وخوض في أعراضهم، فهي كلمات لا تدمر من قيلت في حقه فحسب، بل تدمر القائل كذلك، وتدميرها للقائل أشد من تدميرها لمن قيلت فيه.
فإن رب العزة سبحانه يقول في كتابه: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:٢٦]، ومطلع هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:٢٣ - ٢٥] ثم جاء قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:٢٦]، ومعنى (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) على رأي جمهور المفسرين: أن الكلمات الخبيثة تصدر من الأشخاص الخبيثين، والكلمات الطيبة تصدر من الأشخاص الطيبين، فالطيبون لا يصدر منهم إلا كل طيب، ولا يصدر منهم الشر، والخبيثون يصدر منهم التجريح، ويصدر منهم التشهير، وتصدر منهم الفضائح، فهم بها أولى وهي بهم أليق.
فالمسلم عليه أن يحفظ لسانه فيما يتعلق بأعراض المسلمين، وقد ثبت في نصوص عدة عن النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام ما حاصله وفحواه أنه يجب على المسلم وجوباً أن يستر أخاه المسلم، إلا فيما دعت الضرورة إليه، كاستفتاء أو استنصاح، لكن ما سوى ذلك يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم، فإن هو فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، وإن هو لم يفعل تتبعه الله حتى يفضحه في قعر بيته، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الآخر: (ومن تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته)، أو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشرع لذلك شاهدة، وهي تشهد لشيء ألا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فمن ستر المسلمين ستره الله، ومن فضح المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضح.