إن الابتلاءات والمحن تستخرج منك جوانب من جوانب العبودية، لا تفعلها وقت رخائك ووقت يسارك، وإن الابتلاءات والمحن تستخرج منك دعوات مباركات كما استخرجت من زكريا عليه السلام وهو يمد يديه إلى السماء:{رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}[الأنبياء:٨٩] وهو يدعو ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}[آل عمران:٣٨].
إن هذه الابتلاءات تستخرج منك دعوات لا تستشعر لها طعماً ولا تذوق لها حلاوة إلا عند البلاء.
تستخرج منك دعوة كتلك التي دعا بها أيوب عليه السلام:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأنبياء:٨٣]، وكالتي دعا بها نوح عليه السلام:{أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:١٠] كلها دعوات لا تخرج بإخلاص وبشدة إخلاص إلا مع عظيم الألم وشدة البلاء، فتستخرج أنواعاً من العبودية كالخضوع لله، وكالإخبات إليه، وكحسن التضرع واللجوء، وهذه لا تستخرج في وقت الرخاء واليسار.
إن الابتلاءات تستخرج منك ما كان مكنوناً، إنها أحياناً تذرف من أقوام الدمع وترقق منهم القلب، فلا تكاد تشعر بنعم الله عليك إلا إذا حرمت هذه النعم، فلا تكاد تشعر بنعمة البصر إلا إذا ابتليت برمد، فإذا ابتليت برمد، أو بدمع لا ينقطع، أو بغشاوة على العين، شعرت بنعمة الله على سلامة البصر، وبنعمة الله إذ عافاك في البصر.
أيها الإخوة: لا يشعر أحدكم بمعنى قول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}[الإنسان:٢٨] إلا إذا ابتلي بسلس البول، بلعاب يسيل ولا ينقطع، أو بنخام ونخاعات تنزل من الأنف {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}[الإنسان:٢٨] معناها: قوينا عضلات التحكم فيهم، فعضلات التحكم في الفم شدها الله وقواها، وكذلك في الأنف، وفي العين، وفي الأذن، وفي القبل والدبر، فلا تشعر بهذه الآية إلا إذا ابتليت بسلس للبول، لا يستطيع له الأطباء علاجاً، إلا إذا ابتليت بإسهال مستمر لا تستطيع التحكم فيه، إلا إذا ابتليت بصديد ينزل من الإذن لا تستطيع أن تتحكم فيه، فتشعر حينئذٍ بنعم الله تبارك وتعالى عليك {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}[الإنسان:٢٨]، فالابتلاءات كما أن ترق بها القلوب بإذن الله، وبها تشكر نعم الله تبارك وتعالى على العبد.
إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.