للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنزال الناس منازلهم]

هنا أصل لابد من معرفته كي تنجح في التعامل مع الناس، ومع المسلمين على وجه الخصوص وتحقيق الأخوة، وهو معرفة أقدار الناس، ومعرفة من تخاطب، فللأمير طريقة في المخاطبة، وللمأمور طريقة، وللجليل طريقة في الخطاب، وللحقير طريقة، وللعالم طريقة عند مخاطبته والتعامل معه، وللجاهل طريقة عند التعامل معه، والغني له أسلوب في الخطاب، والفقير له أسلوب في الخطاب، فلابد من إنزال الناس منازلهم.

دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على النجاشي لما جاء عمرو بن العاص إلى الحبشة يشكو مهاجرة الحبشة إلى النجاشي فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام.

فانظر إلى هذا الفقه: (إنك ملك لا يصلح عند كثير الكلام).

فالملك له مشاغله وله اهتماماته إذ هو يسوس دولة، ولأفرادها عمومها مشاكل، ولها أعداء، فلا يصلح أن يجلس وقتاً طويلاً مع شخص في جزئيات صغيرة، فقدم جعفر مقدمة ذكية تلم عن فهمه لأحوال الناس، فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام، فوضعنا كذا وكذا وكذا وشرح وضعه رضي الله تعالى عنه.

أي: للملك طريقة في الخطاب.

والجاهل كذلك إذا تكلم معك فعليك أن تعامله بطريقة أخرى.

جاء عيينة بن حصن الفزاري إلى ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر من جلساء عمر وأهل مشورته وهو من حملة القرآن، وكان عمر رضي الله عنه يدني منه حملة القرآن، ويقربهم ويجعلهم أهل الشورى وأهل المجالسة، فإذا نزلت به نازلة استشارهم إذ هو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى).

وجدير بكل رجل من أصحاب المسؤوليات والوجهات والأموال أن يجعل بعض مستشاريه من حملة كتاب الله، وحملة سنة رسول الله وحملة العلم، ليستشيرهم في أموره حتى لا يندم بعد ذلك، ولذا كان عمر يدني الحر بن قيس منه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: يا ابن أخي إن لك وجاهة عند هذا الأمير -يعني: عمر وكان عيينة بن حصن رجل من البدو الأعراب، بل من المؤلفة قلوبهم- فاستأذن لي بالدخول عليه، فجاء الحر بن قيس رضي الله عنه ودخل على أمير المؤمنين عمر وقال: يستأذن عليك عمي عيينة بن حصن.

فأذن عمر له، فلما دخل عيينة على عمر قال: يا ابن الخطاب -هكذا بجلافة الأعراب- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فهمّ به عمر ليبطش به فتدخل الحر وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تخطاها عمر ولا تعداها وسكت رضي الله تعالى عنه.

والحمد لله رب العالمين.