[أحكام طلاق المعتدة]
قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:١]، أي: مستقبلات عدتهن، أو حيث يقمن لعدتهن، يعني: لا تطلقوهن وهن في الحيض، بل طلقوهن وهن مستقبلات الحيض، أي: طلقوهن وهن أطهار.
قال آخرون: وهو نص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (طلقها في طهر لم تجامعها فيه) وهذا طلاق السنة، وطلاق السنة: هو أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها وهي حامل قد استبان حملها.
وأضاف إليه بعض العلماء شيئاً آخر: أو يطلقها إذا كانت لم تحض؛ وهي الصغيرة التي لم تحض أو الكبيرة التي حيضها منقطع.
فهذا طلاق السنة بالنسبة للمرأة التي تحيض، أن يطلقها زوجها في طهر لم يجامعها فيه، أو وهي حامل قد استبان حملها، أي: ظهر حملها.
لكن فرضاً أنه طلقها وهي حائض، أو طلقها في طهر جامعها فيه، فهذا ليس بطلاق على السنة إنما هو طلاق بدعي؛ فقد جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك غضباً شديداً وقال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق) وفي رواية أخرى: (مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر) أي: جعل لها طهرين في هذه الرواية الأخيرة، (ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق)، لكن حمل العلماء هذه الرواية الأخيرة التي فيها المكث طهرين أنها على الاحتياط أو الاستحباب لا الإيجاب، إنما هو طهر واحد، يمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك قبل أن يمسها.
فترد علينا مسألة على عجل، ألا وهي: هب أن رجلاً طلق امرأته وهي حائض، مخالفاً بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهل تقع هذه الطلقة أو التطليقة أم أنها لا تقع؟ ذهب جماهير السلف والخلف إلى أن هذه التطليقة تحتسب وإن كانت خلاف السنة، ومن هؤلاء مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم، بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتبعه تلميذه ابن القيم رحمه الله إلى أنها لا تقع.
وفي الحقيقة أن حجة شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الموطن حجة داحضة، وليست بسديدة بحال -وسيأتي بيان ذلك-والصواب في ذلك ما رآه جماهير العلماء من السلف والخلف، ومنهم الأئمة الأربعة: أنها تقع؛ مع ما فيها من إثم على المطلق.
أما حجة الجماهير القائلين بالوقوع، فمنها ما يلي: أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (مره فليراجعها) قالوا: فلا مراجعة إلا وقد وقع طلاق.
الثاني: قول ابن عمر رضي الله عنهما: (حسبت عليّ تطليقة)، وفي الرواية الثالثة قيل له: (أوتحتسب تلك تطليقة؟ قال: أومه.
أفرأيت إن عجز واستحمق؟).
ثالثاً: أنه قال لها: (أنتِ طالق) وهذه كفيلة بالمراد.
أما حجج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليه فتتلخص في الآتي: أولاً: أورد من طريق ابن الزبير عن ابن عمر أنه قال: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فلم يرها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً).
الإجابة على هذا: هذه الرواية ابتداءً أعلها جماهير المحدثين، وضعفها من الناحية الحديثية جماهير المحدثين، ويكفينا الدليل والأثر الصحيح بقول هؤلاء الأئمة الجهابذة أنها ضعيفة، وجماهير المحدثين وأهل العلل أعلوا رواية ابن الزبير التي فيها أن النبي لم يرها شيئاً، بل ورد عند الطيالسي أنه قال: (فعدها واحدة)، هذا شيء.
الشيء الآخر في حالة صحة: (فلم يرها النبي شيئاً)، أي: لم يرها شيئاً على السنة، بل هي على البدعة وليس فيها تعلق بالوقوع من عدمه.
الدليل الثاني الذي احتجوا به: رواية مختصرة رواها ابن حزم الأندلسي رحمه الله، وتبعه على هذا الاختصار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد اختصرت اختصاراً أخل بالمعنى إخلالاً شديداً أوقع الباحث في ورطة، وها هو بيان هذا الاختصار ووجهه.
احتجوا بما ذكره ابن حزم بإسناده إلى ابن عمر أنه: (سُئل عن طلاق المرأة وهي حائض؟ فقال: لا يعتد بتلك)، فهذا الأثر شنع به ابن القيم رحمه الله تشنيعاً شديداً في زاد المعاد، وفرح به فرحاً شديداً لتقرير مذهبه، وفي الحقيقة أنه اختصار مخل غاية الإخلال، فالرواية من نفس الإسناد إلى ابن عمر مذكورة عند ابن أبي شيبة في المصنف في باب الأقراء، بهذا الطول: (سُئل ابن عمر عن طلاق المرأة وهي حائض فقال: لا يعتد بتلك الحيضة) فزاد كلمة (الحيضة) أي: لا يعتد بتلك الحيضة أنها من الأقراء، أي: زمن العدة التي تعدتها المرأة.
فلما اختصرت قدرها ابن القيم تقديراً آخر، فالرواية: (لا يعتد بتلك الحيضة)، اختصرها إلى (لا يعتد بتلك)، وقدر محذوفاً وهو: (لا يعتد بتلك الحيضة).
يعني: المرأة إذا طُلقت وهي حائض هل تحسب هذه الحيضة في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:٢٢٨]؟ يعني الحيضة التي طلقت فيها المرأة تحتسب من زمن العدة، أو لا تحتسب؟ فلما كانت الرواية (لا يعتد بتلك الحيضة)، واختصرها ابن حزم وتبعه ابن تيمية على لفظ: (لا يعتد بتلك)، وحذفوا كلمة (الحيضة) وحملهم حذفهم أو روايتها محذوفة عندهم على أن يقدروا ما ساغ لهم من تقدير، وهو: لا يعتد بتلك التطليقة، وهذا خطأ مصادم لظاهر الرواية التي هي مطولة عند ابن أبي شيبة، وبوب لها ابن أبي شيبة كما أسفلنا في باب الأقراء.
فكان في الحقيقة ما سطره ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد مساغ ضحك، إذ طفق يصول ويجول على مذهبه وعلى طريقته من إطالة النفس في المسائل التي ينتصر لها رحمه الله، كما أطال النفس في عدة مواطن، ولكن الرواية الثابتة: (لا يعتد بتلك الحيضة)، دحضت ما دندن حوله رحمه الله تعالى.
فكانت هذه أقوى الحجج التي احتج بها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
مضافاً إلى ذلك عندهم: أنه عمل محدث، والنبي يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وهذا ليس من هذا الباب، أيضاً إذا وقفنا مع حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفهمناه هذا الفهم الغريب الذي فهمه شيخ الإسلام لكشفنا الكرب عن أقوال الكثيرين.
هل في ديننا القتل؟ هل في ديننا أن شخصاً مسلماً يقتل آخر؟ فإذا قلنا: لا عقوبة عليه، والعمل مردود رفعنا عنه حرج القتل.
هل في ديننا الأيمان الفاجرة أو الأيمان الغموس؟ هل يستدل لرفع الكفارات عمن أقسم يميناً غموساً؟ هل يرتفع عنه الحكم؟ أو هل ترتفع عنه العقوبة بهذا الفهم؟ باب العقوبات شيء آخر، لا يقال فيه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
فهل من الإكرام له أن نقول لمن طلق امرأته وهي حائض وخالف السنة أن نقول له: خالفت السنة ولا حرج عليك.
والذي طلقها وهي طاهر نقول له: لا عليك الطلاق واقع لأنك وافقت السنة.
كيف يقبل هذا عقلاً؟ إذا جئنا من ناحية العقل فـ شيخ الإسلام يقول ما حاصله: كيف نأمر المطلق امرأته وهي حائض أن يراجعها؟ ثم بعد أن تطهر نقول له: طلقها مرة ثانية؟ فنكون قد أوقعنا عليه تطليقتين.
فهذه حجته.
فنقول له: نحن قلنا له: راجعها، ثم بعد ذلك إن شئت أمسك وإن شئت طلق، ولم نأمره أمراً أن يطلقها إذا طهرت، إنما قلنا له: إذا طهرت إن شئت طلقت وإن شئت أمسكت، لكن الذي سبقت وقعت عليك، فهي إلى التأديب والتعزير أقرب.
فلا يقال أبداً: إن من طلق امرأته أو خالف السنة وطلق وهي حائض أن طلاقه ليس بواقع، وإن من اتبع السنة طلاقه واقع، وهذا كلام واضح غاية الوضوح، فلما أراد شيخ الإسلام أن يرفع مطلق البدعة عمن طلق المرأة وهي حائض ويقول له: طلاقك ليس بواقع، أنزله بعكس من طلق على السنة، وهذا ليس بسوي ولا بصحيح، وقد قال ابن عمر فيما سمعتم: (حسبت عليّ تطليقة)، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (مره فليراجعها).
كذلك من طلق امرأته في طهر جامعها فيه طلاقه أيضاً واقع؛ إذ ليس هناك أي دليل يفيد أنها لا تطلق، فما هو الدليل الذي يفيد أنه لا يقع؟ فقد سمعتم ما في الاستدلال بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) من توجيه.
فعلى ذلك كما أسلفنا وأكدنا أن رأي الجماهير من العلماء ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى هو الرأي الأسد، وهو الرأي الأصوب، والعلم عند الله سبحانه وتعالى.
فلا داعي إذا جاء شخص وقال: أنا طلقت زوجتي ثلاث تطليقات أن نفتح له أبواب الشياطين، هو يقول: طلقتها منذ عشر سنوات، فهل أفتش هل كانت تلك أيام في حيضها أو لا؟ هل كنت جامعتها أو لم تجامعها؟ كل هذا لم يرد عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله تعالى عنهم، إنما هي وساوس واتباع للآراء الشاذة المرجوحة لغير دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، والله أعلم.