للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات]

فالحكم والغايات من وراء الابتلاءات والمحن كثيرة جداً، لا يعلم أمدها ولا مداها إلا الله تبارك وتعالى، فمن أجل مقاصد تلك الابتلاءات التي تحل بنا: - أن نخرج منها وقد تحاتت عنا الذنوب والخطايا كما يتحات ورق الشجر.

قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بذلك من خطاياه)، وفي رواية: (إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت عنه خطاياه- كما يتحات ورق الشجر).

ولما نزل على رسولكم محمد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:١٢٣] بلغت من الصحابة مبلغاً شديداً فشكوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما أصابهم من الهم وقالوا: (أينا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: أبشروا وسددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة لذنوبه).

وفي الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي بكر رضي الله عنه لما شكا بشكوة مماثلة: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تصيبك اللأواء؟) أي: أن كل ذلك تكفر به الخطايا وتمحى به الذنوب.

ولا يخفى عليكم أن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام كان يُبتلى ابتلاءً أضعاف أضعاف ما يبتلى به غيره، دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وقد وعك وعكة شديدة فقال: (أراك -يا رسول الله- يضاعف عليك البلاء، أذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء).

وتعلمون كذلك أن رسولكم عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة يقال لها أم السائب وهي تشتكي الحمى وترجف ويرجف جسمها فقال لها: (مالك يا - أم السائب - تزفزفين؟ قالت: يا رسول الله! الحمى لا بارك الله فيها.

فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبي الحمى)، وأخذ منه: أن الأمراض لا تسب فإنها كفارات، (لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير بخبث الحديد).

إذاً: استفدنا من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبي الحمى) أننا لا نسب عموم الأمراض؛ لأنها تمحو خطايا بني آدم، فالذي يطلقه الأطباء على مرض السرطان -عافانا الله وإياكم منه- إنه مرض خبيث، لا ينبغي أن يطلق هذا الإطلاق؛ وذلك لأن السرطان شأنه كشأن غيره، بل شأنه لشدته أعظم من شأن غيره في محو الخطايا وإزالة الذنوب.

فينبغي أن ندقق -أيها الإخوة- في الاصطلاحات التي نطلقها حتى لا تتضمن وصفاً لشيء بعكس ما هو فيه، وحتى لا تتضمن اعتراضاً على قضائه وقدره.

إن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام أتته أمة سوداء تشكو إليه ما مسها من الضر، كي يدعو الله لها، قائلة: (يا رسول الله! إني أصرع -يصيبها الصرع- فادع الله لي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرتي ولكٍ الجنة.

قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) أي: لا تنكشف سوءتي أثناء صرعي، فدعا الله لها ألا تتكشف، فكانت تصرع ولكن ببركة دعوة رسول الله لا تتشكف، فكان الحبر الكريم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا رآها وقد تعلقت بأستار الكعبة تدعو ربها سائلة راجية مستغفرة يقول: (من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة، فلينظر إلى هذه الأمة السوداء المتعلقة بأستار الكعبة) ويقص ابن عباس رضي الله عنهما على المسلمين خبرها.

أيها الإخوة: قد عاد نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام مريضاً أعرابياً، وكما لا يخفى عليكم فالأعراب جمعوا مع جفاء القلوب جهلاً بالشريعة وأحكامها (فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعرابي يزوره ويعوده، فوجده قد حم حمة شديدة، فقال النبي مصبراً ومواسياً: لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال الأعرابي: طهور؟ -أي: تقول لي: طهور- بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: فنعم إذاً) أي: أن الأمر إذاً كما اخترت لنفسك، فما دمت اخترت لنفسك ألا تكون الحمى كفارة، وألا تكون الحمى تطهيراً من الذنوب فكما اخترت لنفسك.

ويذكر الشراح بإسناد يحرر: أن الرجل ما مرت به ليلتان إلا ومات، وذلك لحلول أجله، ثم إنه لم يقبل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا دوماً مصير من لم يستسلم لدعوة النبي له، كما حدث نظيره لرجل يقال له: حزن وهو جد سعيد بن المسيب بن حزن فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (ما اسمك؟ قال: اسمي حزن يا رسول الله! قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي يا رسول الله!) قال سعيد بن المسيب رحمه الله: (فما زالت الحزونة فينا) أي: أن الحزن لازمهم على الدوام.

أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام في شأن مرض شديد يحل بالأبدان ألا وهو مرض الطاعون: (الطاعون شهادة لكل مسلم)، وكذا في المبطون إذ قال: (شهداء أمتي خمسة: المطعون -أي: الذي أصابه الطاعون- والمبطون، والغريق، والحريق، وصاحب الهدم).

وقال أيضاً: (والمرأة تموت بجمع) أي: التي تموت في نفاسها شهيدة كذلك، كذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

وفي الحديث: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم في قتلى الطاعون -كل يريد أن يأخذ الذين ماتوا من الطاعون إلى صفه يوم القيامة- يقول الشهداء: يا ربنا! أشبهت دماؤهم دماءنا، ويقول المتوفون على فرشهم: يا ربنا! ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا، فيقول الله تعالى: انظروا إلى دمائهم، إن أشبهت دماؤهم دماء المتوفين على فرشهم فهم منهم، وإن أشبهت دماؤهم دماء الشهداء فهم منهم، فيجدون دماءهم قد أشبهت دماء الشهداء فيلحقون بهم) فضلاً من الله ونعمة منه تبارك وتعالى.

أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من ابتليته بحبيبتيه -أي: بفقدان عينيه- فصبر عوضته خيراً منهما الجنة).

أيها الإخوة: إن الدرجات ترفع بالابتلاءات، فكم من شخص منَّا له عند الله منزلة علية! لا يبلغها بعمله، لا يبلغها بصلاته ولا بصيامه ولا بقيامه، لكن يبلغها بالصبر في الفتن، يبلغها بالهم والحزن، يبلغها بابتلاء في ولد، وبابتلاء من جار شرير مفسد بالصبر عليه، فتبلغ بهذه إلى المراتب التي لم ترفعك إليها صلاتك ولم يرفعك إليها صومك، ولم يرفعك إليها كبير عمل قدمت، لكن تبلغها بالصبر على البلاء.

إن الفتاة التي تقدم بها السن، ولم ترزق بزوج صالح تقر به عينها، ترتفع درجتها بصبرها على قضاء الله، وعلى قدر الله، وتلك التي تزوجت ولم تنجب لعلها ترتفع كذلك بصبرها عند الله درجات، وعساها وقد حرمت الولد أن تمد يديها لربها سائلة إياه الولد.