للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موت النبي ابتلاء عظيم]

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤٠ - ١٤١]، إلى قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٣ - ١٤٤]، وهذه الآية كانت إرهاصاً وتقدمة لموت رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فليستعد المسلمون لاستقبال موت رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، ولكن منهم من وعى الآية وعقلها وحفظها، ومنهم من لم يكد يتصور أن نبيه سوف يموت صلى الله عليه وسلم، مع توافر الآيات في هذا الباب، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠]، وكقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:٣٤]، وكقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:١٨٥]، مع توافر هذه الآيات لم يكد بعض الصحابة يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يموت، فقدم الله ذكر ذلك في غزوة أحد تمهيداً لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليستعد المستعد وليتأهب المتأهب، قال الله جل ذكره: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:١٤٤]، هذا شأنه: أنه بشر، لكنه رسول من عند الله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، أي: مضت من قبله الرسل، رسول كشأن سائر المرسلين، كإبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، وإخوانه من المرسلين ليس بإله، ولا بملك، ولا من حملة العرش، بل هو رسولٌ قد خلت من قبله الرسل: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤].

هذه الآيات نزلت في غزوة أحد لما تفشى في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، ولما قال أبو سفيان: (أفي القوم محمد؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان: أفي القوم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه، ثم قال أبو سفيان: أفي القوم ابن الخطاب؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، فحينئذ انتشى أبو سفيان وسعِد لأن هؤلاء قد قتلوا، ثم قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، والأيام دول، كذا قال أبو سفيان، ثم استطرد قائلا: وفي القوم مُثلة -أي: مثلنا برجل وهو حمزة - لم آمر بها ولم تسوءني، ثم طفق قائلاً: أعل هبل، فـ عمر ما أطاق هذه الكلمات: فرد عليه قائلاً: أي عدو الله! قد أبقى الله لك ما يسوءك.

انتشر بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، فحزن قومٌ لذلك أشد الحزن، وقال فريقٌ منهم: وما لنا في الحياة بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام؛ وتقدموا للقتال، وحزن آخرون واستكانوا، فعاتب ربنا الجميع فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤] ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأجل الذي كتبه الله له وحدده، أخبر عمر بموت الرسول صلى الله عليه وسلم فما صدق أن الرسول قد مات، وذهب ينهر ويزجر من زعم أن النبي قد مات، وقال: إنه سيرجع ويقطع أيدي رجالاً وأرجلهم، وأبى أن يقر بموت رسول الله، والناس من حوله يلتفون؛ فجاء أبو بكر ذلكم البار الراشد العاقل الحافظ، فقال: أيها الرجل المتكلم! على رسلك، فالتف الناس حول أبي بكر، وتركوا عمر، فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ثم تلا قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤].

فلا تعلق عبادتك على موت شخص أو حياته، أياً كان هذا الشخص، وأياً كانت منزلته وقدرهُ، فربك سبحانه حيٌ لا يموت، قريبٌ يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، يقترب منك ذراعاً إذا اقتربت منه شبراً، يقترب منك باعاً إذا اقتربت منه ذراعاً، يأتيك هرولة إذا أتيته تمشي، فكن على صلة بربك، وكن على ثقة به سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:١٤٥]، فلماذا الحزن والهم؟ ولماذا النكد والجبن؟ ولماذا الخوف؟ فالأرزاق مقسومة، والآجال مقدرةٌ مضروبة.