[من آداب الدعاء]
أخذ العلماء من الآية أدباً من آداب الدعاء، وهو: أنك إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى فينبغي أن تقدم بين يدي الدعاء مقدمات، فلا تقل مباشرة: يا رب افعل لي وافعل لي، بل تأدب بآداب الدعاء وإن كان الأخير جائزاً أحياناً، لكن الأكمل أن تقدم آداباً من آداب الدعاء ومقدمات بين يدي الدعاء.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يثنِ عليه، ولم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه).
كذلك في حديث الشفاعة الطويل: (عندما تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة، يبلغ بالناس من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقولون: بمن نستشفع؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم فإنه أبو البشر، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيأتون إليه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح) الحديث.
وفي نهايته تنتهي الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يشفع: (فأخر لربي ساجداً، فيفتح الله عز وجل عليّ بأنواع المحامد والثناءات لا أحصيها الآن ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فسؤاله الشفاعة جاء بعد حمد الله والثناء عليه.
وكذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في دعائه بالليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو: لا إله غيرك).
فقوله: (اغفر لي ما قدمت وما أخرت) جاء بعد قوله: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) إلى آخر الحديث.
وكذلك في صلاة الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) ثم بعد ذلك يأتي بالدعاء -والركعات حملت حمداً وتسبيحاً وتمجيداً وتهليلاً وتكبيراً-.
فإذا أردت أن تدعو ربك فاحمد الله واثنِ عليه بين يدي الدعاء، ولذلك قال العلماء: إن هناك مناسبة في قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير- أن يستجاب لكم)، حيث جاء الدعاء في السجود بعد تعظيم الرب وتمجيده وتسبيحه سبحانه وتعالى في الركوع.
فعلى ذلك عليك أن تنظر إلى كتاب الله وتستخرج منه المقدمات التي تقدم بها دعاءك، وتتوسل بها إلى ربك سبحانه، كما قال زكريا عليه السلام متأدباً بآداب الدعاء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:٣] وبدأ يظهر حاله من الانكسار لله: {قَالَ رَبِّ} [مريم:٤] أي: يا رب {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:٤] أي: ضعف عظمي، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:٤] أي: ضعفت قوتي، ونحل جسمي، وشاب شعر رأسي، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:٤] أي: ما أشقيتني أبداً يا رب بالرد والحرمان، فأنت كريم كلما دعوتك أجبت، وكلما سألتك أعطيت، ما تعودت منك المنع، فأنت الكريم.
ثم برر أيضاً مسألته، قائلاً: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:٥] أي: خفت من أقاربي وبني عمي ألا يقيموا الدين، فليس فيهم فيما أرى رجل من أهل الصلاح يحمل هذا الدين، ويسوس بني إسرائيل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:٥] وبعد هذه المقدمة كلها يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٥ - ٦].
فجدير بك أن تستنبط آداب الدعاء من كتاب الله ومن سنة رسول الله، وتمهد له تمهيدات، تخرج من بيتك قائلاً: يا رب! خرجت من بيتي ألتمس فضلك ورزقك، تركت أماً عجوزاً كبيرة ووالداً شيخاً كبيراً في حاجة إلى فضلك ورزقك، فيا رب ارزقني برفق هؤلاء الضعفة.
فهذه المقدمات تقربك إلى الله سبحانه، وتحيي قلبك الذي قد علاه الران، هذه المقدمات والاستهلالات بها يستجاب الدعاء بإذن الله، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ سعد لما رأى لنفسه فضلاً: (ابغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم؟).
فلتظهر حالك من الانكسار لله، كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤]، وكما قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣].
فقدم مقدمات تثني بها على الله، كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠] ولا تمل من السؤال والدعاء، فالذي يعطي هذا وذاك هو الله سبحانه، لا يشغله كبير عن صغير، ولا جليل عن حقير.