للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الذكر]

إن شأن الذكر لعجيب، فالعبادات التي افترضها الله علينا إنما افترضت كي يذكر الله فيها، قال الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٤] أي: وأقم الصلاة لتذكرني فيها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لذكر الله عز وجل)، فالعبادات التي افترضها الله علينا إنما افترضت كي نذكر الله سبحانه وتعالى فيها، ولا جرم؛ فإن الله يقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٣٥]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام لما كان في سفر مع أصحابه، (سبق المفردون سبق المفردون! قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، وليس من عجب أن يدعو موسى صلى الله عليه وسلم ربه أن يمده بأخيه هارون؛ لعلة كبرى، قال موسى عليه الصلاة والسلام: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:٣٠ - ٣٢]، لماذا؟ قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:٣٣ - ٣٥]، فموسى يطلب من الله أن يعينه بأخيه هارون، وأن يمنّ على أخيه هارون بالنبوة هو الآخر؛ لعلة لا شك أنها من أعظم العلل، ألا وهي: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:٣٣ - ٣٥].

فلا جرم -إذاً- أن ذكر الله فيه منتهى النفع؛ إذ العبادات شرعت من أجله، والأنبياء ما رخص لهم في تركه بحال من الأحوال، زكريا عليه الصلاة والسلام لما منع من الكلام، قال الله له: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:٤١]، أي: أنك لا تستطيع الكلام ثلاثة أيام، ومع عدم استطاعة الكلام لا تمتنع من الذكر، بل قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:٤١]، ولم تسقط الصلوات التي هي محل ذكر الله في أشد الأوقات؛ لم تسقط عن أي مريض، ولم تسقط عن أي مسافر، ولم تسقط عن أي مقاتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع، فعلى جنب)، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماء)، فذكر الله ينبغي ألا يفارق العبد، بأية حال من الأحوال.

ذكر الله به تذكر في الملأ الأعلى، قال الله سبحانه: (من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير من ملئه)، فتخيل وأنت واقف مع إخوانك تذكرهم بالله أن ربنا يذكرك في الملأ الأعلى سبحانه وتعالى، قال الله في الحديث القدسي: (أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه)، وحسّن بعض العلماء حديثاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله).

- ذكر الله يجلب محبة ربك لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).

- ذكر الله به تطمئن القلوب الوجلة المضطربة: القلوب الخائفة تطمئن بذكر الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:٢٨ - ٢٩]، فحقاً إنها نعمة ينعم الله بها على أهل الإيمان، إذا أصيبوا بمصيبة، أو حلت بهم كارثة، أو ابتلوا بفقدان مال أو عيال، أن يلهموا الذكر، فذكر الله يطمئنهم.

- ذكر الله خير عوض لهم عما فات: قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧]، يقوم الشخص من نومه، منزعجاً من رؤيا رآها فبذكر الله يطمئن قلبه ويسكن خاطره، إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وتعوذ بالله من شرها.

- ذكر الله سبحانه يقوي القلب: قال تعالى في شأن من خوفهم الناس من عدوهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، فماذا كان؟ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٤]، قالها أهل النفاق مرجع الرسول صلى الله عليه وسلم من أحد، وقد أنهكت قواه وقوى أصحابه، وقتل من قتل، وشج رأس نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وانصرف آنذاك أبو سفيان مفتخراً متباهياً، قائلاً: اعلُ هبل! فأجابه عمر، بل الله أعلى وأجل، فانصرف رسول الله وأصحابه، فجاء أهل النفاق بالإرجاف إلى رسول الله وإلى أصحاب رسول الله، يقولون لهم: إن أبا سفيان ومن معه سيأتون لاستئصالكم -مع أن القوة منهكة، والنفوس كسيرة- فماذا قال رسول الله هو وأصحابه: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:١٧٢]؟! قالوا جميعاً: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣]، فماذا كان؟ كفاهم الله شر عدوهم قال سبحانه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٤]، وكذلك كانت حال غلام ضعيف في وسط جبابرة ظلمة أخذوه ليلقوه من أعلى جبل، وأخذوه ليلقوه في وسط البحار، وما له معتصَم إلا بالله وبذكر الله، فقال -في كلا الحالتين-: اللهم اكفنيهم بما شئت، فكفاه الله سبحانه بما شاء، ورجع سالما آمناً غانماً.

ذِكر الله سبحانه وتعالى نور لك في السماء نور لك في قبرك نور لك في أُخراك.

- ذكر الله سبحانه حصنٌ لك من الشيطان الرجيم: قال الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:٩٧ - ٩٨].

ذكر الله -بما فيه من استغفار- تستدر به الأرزاق، وتتسع به المضايق: قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:٣]، وكما قال نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:١٠ - ١٢].

ذكر الله -بما فيه من استغفار- تدفع به البلايا: قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣]، فجدير بك ألا تفارق الذكر في هذه الأيام الطيبة المقبلة عليك على وجه الخصوص، ولا تغفل عن ذكر الله أبداً، فإنك إن غفلت عن الذكر، انقضت عليك شياطين الإنس، بل وشياطين الجن كذلك، فالشيطان وسواس، وتدفع وسوسته ويبعد شره بذكر الله عز وجل.