للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سنة المفاضلة بين الخلق]

الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله سبحانه وتعالى بالهدى ودين الحق وجعله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، وعلى آله وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

وبعد: فكما لا يخفى على كل لبيب أن الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا للابتلاء وللاختبار، قال الله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:٢]، لهذا خلقت الحياة الدنيا، وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إذ بعثه: (إني مبتليك ومبتلٍ بك)، فجرت سنة الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا وعلى هذه الحياة الدنيا أنها للابتلاء وللاختبار، وجرت سنة الله أيضاً على المفاضلة بين الخلق في كل شيء، وعلى المفاضلة بين كل الأشياء كذلك كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:٢١]، وكما قال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:١٦٥]، وكما قال سبحانه: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢]، فجرت سنة الله سبحانه على المفاضلات بين الخلق، فترى اختلافاً كثيراً بين الخلق، وليس بين بني آدم فحسب، بل بين الدواب وبين الأشجار والنباتات وبين الأسماك وبين الجان وبين الملائكة، وقد قدمنا لذلك نماذج مراراً، ولا بأس للتذكير ثانية: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥] وابتداءً فقد قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:٢٩]، فكل ما في الأرض خلق لبني آدم، سواء للانتفاع به أو للاعتبار به والادكار، فإذا نظرنا في عالم الحيوانات سنرى تباينات لا يحصيها إلا خالقها سبحانه وتعالى، فترى حيواناً يؤلف، وآخر شرساً لا يؤلف بحال من الأحوال، ترى شاة متواضعة منكسرة، وترى جملاً متعالياً متكبراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السكينة والوقار في أهل الغنم -قال العلماء: لاقتباسهم من أخلاقها- والكبر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل) فأهل الإبل أهل كبر واختيال اقتبسوا أخلاقهم من صفات ما يعايشونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على ذروة سنام كل بعير شيطان)، وترى قطاً قد يؤلف، وترى نمراً لا يؤلف بحال من الأحوال، وترى أسداً كريماً عند افتراسه للفريسة لا يأكل منها إلا إذا قتلها، وترى نمراً دنيئاً يتلذذ بتمزيق الذبيحة وهي حية قبل أن تموت، ترى خنزيراً -عياذاً بالله- قد فقد غيرته ولا يبالي بعرضه، وترى ديكاً غيوراً شديد الغيرة على الدجاج التي معه ويقاتل من أجل الدجاج أشد القتال، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى جرت في هذه البهائم والدواب، ترى نحلاً منظماً مرتباً في عمله، وترى فراشاً طائشاً ساعياً هاهنا وهاهنا بعضه يركب بعضاً، ترى جراداً منتشراً يمشي في أسراب، وترى فراشات تقذف بنفسها إلى النار، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ترى حيواناً ذكياً كالقرد، وترى آخر ضعيف الرأي كالفيل، سنن لله سبحانه في الخلق من الدواب وغيرها حتى نعتبر وندكر بها.

والحيوانات فيها ما لا يحصيه إلا الله، فترى خفاشاً خلق من لحم ودم لا يرى في النهار ولا في الليل إلا ساعة واحدة بعد الفجر وساعة أخرى بعد غروب الشمس، وما سوى ذلك لا يرى فيه، ومن عجيب قدرة الله وعظيم صنعته فيه أن أنثاه تحيض، فمع أنه يحيض ويلد إلا أنه يطير، ومع طيرانه لا يبيض، وتراه يضحك ويبكي! فهذه سنن لله في الخلق، لعل معتبراً أن يعتبر ولعل مدكراً أن يدكر ترى حيَّة نصبت عداوتها لبني آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الحيات: (والله ما سالمناهن منذ حاربناهن) وكما قال تعالى في شأنهن أيضاً عند بعض المفسرين: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:٣٦] قالوا: إن ضمير الجمع لبني آدم وللشيطان وللحيات، والله تعالى أعلم.

كذلك يمتد الأمر إلى النباتات: فترى نباتات كلها طيبة الطعم، وأخرى حامضة مرة لا تستساغ بحال من الأحوال، وترى نباتات أكلها يقوي البدن وأخرى تفتك بالأجسام، وترى نباتات كريمة ضربها النبي مثلاً للمؤمن فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن) وهي النخلة، وترى أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (إنها من شجر اليهود) وهي الغرقد، سنة جرت لله سبحانه وتعالى في الخلق: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:٤].

أما الأسماك فشأنها أعجب من ذلك، وأما الجن فالجن أيضاً طرائق متعددة فمنهم الأبله، ومنهم الشيطان المارد، ومنهم الجاهل، ومنهم الغبي، ومنهم الذكي، كما قالوا عن أنفسهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:١١].