للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأضاحي]

أيها الأحبة: أنتم على مشارف العشر، وقد قال الله في يوم منها وهو يوم النحر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢]، والخطاب وإن كان موجهاً لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن المسلمين أخذوا من ذلك سنة متبعة عامة، وهي سنة الأضاحي: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:٢] أي: وانحر لربك، فإذا كنت موسراً فأنفق في هذه السبل، والقربات فهي خير ما تنفق فيه الأموال، والله لأن تنفق مالاً في أضحية خير من أن تنفقه في بدلة وفي كرفته، ولأن تنفق مالاً في أضحية خيرٌ من أن تنفق مالاً في غير قربة، ولأن تنفق مالاً في حج خير لك من أن تنفقه في سيارة فخمة، وقد تغني عنك سيارة تقوم بالغرض، فلتؤجل شراء السيارة الفخمة، فإنفاقك في الأضاحي -إن كنت موسراً ووسع الله عليك- إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام، وإحياء لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.

وفي هذه الأضاحي ذكر لله، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:١٨٥] فغيرك يهل بآلهة أخرى، فليس المراد فقط أنك تقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر، وفي هذا ثواب بلا شك، ولكن الإهلال نفسه لله فيه أجر، ففيه إقرار بالتوحيد، وبالذبح لله وحده، فعندما تقول: باسم الله والله أكبر على الذبيحة فأنت مأجور أجراً أعظم ثم أعظم ثم أعظم من رجل يقول: باسم الله والله أكبر، في موطن آخر، وقد يقول قائل: أنا أقول: (باسم الله والله أكبر) في أي وقت فما الفضل الزائد في كوني أقول: (باسم الله والله أكبر) على الذبيحة؟ نقول: إن هذا إقرار بتوحيدك وإخلاصك لله، فإن أهل الكفر يسمون باسم اللات أو العزى أو مناة الثالثة الأخرى، والنصارى يهلون لغير الله، وكذلك عموم أهل الكفر، أما قولك عند الذبح: باسم الله والله أكبر، فهو دال على توحيدك وإخلاصك لله، فالأجر في ذلك أعظم.

ثم إن الله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:٣٧] أي: الله ليس في حاجة إلى طعامكم ولا إلى شرابكم أبداً سبحانه، فهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧] هذا كلام ربنا، فإذا قست الأمور بالمقاييس المادية خبت وخسرت، فعموم الناس -إلا من رحم الله- يزنون الأمور بميزان المال والدنيا، لكن إذا وقفنا مع ربنا ومع آيات ربنا علمنا أن الميزان هو التقوى، ماذا فعل ابني آدم؟ كلاهما قرب قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بقربان، وهذا تقرب إلى الله بقربان، لكن التقي الذي استعظم القربان، وطاب نفساً به، فأخرجه غير شحيح به، بل أخرجه متقرباً به إلى الله محباً لذلك، وُقِي شح نفسه، وأخلص لله في ذلك كله، ورجا بالقربان التقرب إلى الله كما هو مفهوم القربان؛ فتقبل منه، أما الذي قرب وهو شحيح، وذبح وهو شحيح، يمد رجلاً ويؤخر الأخرى، يمد يداً ويؤخر الأخرى، يقول: أنا أولى، زوجتي أولى، ثم قد يمتنع، فهذا الله غني عنه وعن قربانه.

إذا قست الأمور بالمقاييس الشرعية تجد أن الأمم من قبلنا كان إذا غنم نبيها غنيمة يجمع كل الغنائم التي غنمها من الكفار في مكان واحد، فتنزل نار من السماء تلتهم الغنيمة كلها، فماذا يكون حال ذلك النبي حينئذٍ؟ يسعد أيما سعادة هو وأصحابه، ويفرحون أشد الفرح إذا نزلت النار وأكلت هذه الغنائم، فهذا دليل على قبولها، ومن ثم قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:١٨٣] جاءت أنبياء اليهود بهذا ومع ذلك قتلتهم اليهود، فاليهود قوم بهت، وفي بعض الآثار أن اليهود قتلوا ثلاثمائة نبي في صبيحة واحدة، ثم قاموا إلى السوق آخر النهار يبيعون العدس والفول ولم يبالوا بما فعلوا!! الشاهد: أن من قبلنا كان أحدهم يفرح إذا تقرب بقربان وقبل منه، قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -وفسر هذا النبي بأنه يوشع بن نون عليه السلام- فأوشكت الشمس على الغروب فقال: يا شمس! إنكِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب، وأنا مأمور أن افتح البلدة قبل غروبك، اللهم احبسها علينا، فحبست الشمس إلى أن فتح البلدة ثم قال: ائتوني بالغنائم، فأتوه بالغنائم، فجمعها في صعيد ولم تنزل النار لالتهامها وأكلها! فقال لأصحابه: أيها الناس! إن فيكم رجلاً قد غل -أي: سرق من الغنيمة- فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل، فبايعه رجلٌ رجلٌ من كل قبيلة، فلصقت يده بيد رجل منهم، فقال: في قبيلتك الغلول، فلتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعوه، فلصقت يده بيد رجل منهم فقال: عندك الغلول؟ قال: نعم يا نبي الله! فذهب وأتى برأس بقرة من ذهب كان قد أخفاها من الغنيمة، فأخذها النبي ووضعها في الغنائم، فنزلت النار والتهمتها).

فالشاهد من ذلك: أننا لا ينبغي أن نقيس الأمور بمقاييس الدنيا أبداً، فالمال مال الله، وما أنفقت من شيء فالله يخلفه، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:٣٩] قد قال الله: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك).

فإذا كان بوسعك أن تشتري أضحية تستعظم هذه الأضحية وتسمنها ثم تتقرب بها تقرباً جميلاً إلى الله؛ فلا تبخل عن نفسك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:٣٨] ولتطعم منها الفقراء، والمحتاجين فكم من رجل لا يكاد يأكل اللحم إلا في هذه المواسم، وكم من رجل ينتظر صدقتك في مثل هذا الموسم؟! كم من رجل ينتظر اللحم الذي ما ذاقه طول العام هو وأولاده وينتظرون قطعة تسوقها إليهم؟ فلا تحرم نفسك الأجر، ولا تحرم الفقراء والمساكين الطعم، وكما تقدم فالله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:٣٧].