[إقالة ذوي الهيئات عثراتهم]
ومنها: إقالة ذوي الهيئات عثراتهم: ومن ذلك ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، فقد كان من جلساء رسول الله عليه الصلاة والسلام وممن شهد بدراً، بل ذكر بعض العلماء: أنه كان من مستشاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستشيره الرسول صلى الله عليه وسلم في أموره بل وفي أمور المسلمين، فخطط الرسول يوماً لغزو مكة، وأطلع حاطباً على هذا السر، فأرسل حاطب رسالة سرية مع امرأة من المشركين إلى مشركي قريش خلاصتها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم فخذوا حذركم -رسالة بهذه الصورة من حاطب إلى هؤلاء المشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم يستأمنه على هذا السر- فأطلع الله نبيه على هذه الرسالة، وأعلمه إياها، فجاء الرسول واستدعى ثلاثة: علياً والمقداد والزبير وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا مكاناً يقال له: روضة خاخ، وستجدون هناك ضعينة -مسافرة- معها رسالة من حاطب إلى المشركين، فأتوني بالرسالة.
قال علي: (فانطلقنا تعادى بنا خيولنا، حتى التقينا بالمرأة فقلنا لها: أخرجي الكتاب الذي معك.
قالت: ما عندي كتاب.
ففتشوها ودققوا التفتيش فما وجدوا شيئاً، فهموا بالانصراف، فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب.
فلما رأت المرأة الجدّ في قول علي أهوت إلى حجيزتها فاستخرجت الرسالة وسلمتها لـ علي، فانطلقوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بها: من حاطب إلى فلان وفلان من المشركين وقرئت الرسالة على رسول الله عليه الصلاة والسلام وكان عمر جالساً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أن هذا الأمر جريمة كبرى، بل خيانة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وخيانة لأهل الإسلام، وكشفاً لسر من أسرار المسلمين للكفار، فأرسل الرسول إلى حاطب فجيء به، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه رجل خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
ولكن رسول الله -الرسول الأسوة- جاء يخاطب -المتهم- يسمع منه.
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:٢٤] عقب قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:٢١ - ٢٢] ثم بدأ أحدهم في بث الشكوى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي} [ص:٢٣] أي: غلبني {فِي الْخِطَابِ} [ص:٢٣] اشتكى {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:٢٣] فأصدر داود الحكم مباشرة وقال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:٢٤].
قال العلماء في تفسيرها وهو أولى الأقوال والله أعلم: إن داود استغفر ربه وخر راكعاً وأناب؛ لأنه لم يسمع قول الخصم الآخر بل حكم للخصم الأول دون سماع ما عند الخصم الآخر.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ حاطب: (يا حاطب!! ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب رضي الله عنه: والله يا رسول الله!! ما كفرت بالله، بل أنا رجل مؤمن أحب الله وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني يا رسول الله!! نظرت إلى نفسي وإلى أصحابك، فرأيت أصحابك يا رسول الله كل منهم له قريب في مكة، يدفع الله بهذا القريب عن أهله وماله الذي تركه بمكة، وأنا ليس لي أقارب في مكة يا رسول الله، فأردت أن أصنع معروفاً وجميلاً في المشركين حتى يحافظوا على أهلي وأموالي بمكة.
وهذا من إيمانه رضوان الله عليه: فقد وكل الأمر إلى الله فقال: يدفع الله بها عن أهلي ومالي يا رسول الله، فكل أصحابك له أهل يدفع الله بهم عنه.
فانفعل عمر أيضاً وقال: دعني أضرب عنق هذا الرجل يا رسول الله، منافق خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه قد صدقكم، فلا تقولوا له إلا خيراً، وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)، وكان عمر رضي الله عنه يعرف قدر نفسه فبكى عمر ودمعت عيناه وقال: الله ورسوله أعلم.
إذاً: الرجل زلت قدمه زلة خطيرة لكن له سابقة خير، فقد شهد بدر فلا تذهب السيئة بعموم الحسنات، فلابد من تذكر أفعال البر التي عملها من وقع في خطأ، فلا تدفع أفعال البر نتيجة سيئة واحدة اقترفت وإن كانت كبيرة من الكبائر، فهي لا تنزع عن المسلم لباس الأخوة الإيمانية.
ومثلاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات كبيرة من أكبر الكبائر: أن تأتي إلى امرأة غافلة مؤمنة محصنة عفيفة، فتقول: فلانة زنت.
كبيرة من أكبر الكبائر، فكيف إذا تعدت هذه الكبيرة إلى قذف امرأة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول القائل: عائشة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان، فهي كبيرة ضم إلى كونها كبيرة أنها طعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومع هذا كله نزل تكذيب هذا القائل ليس من عندي ولا من عندك بل تكذيبه من الله، ومع ذلك كله أيضاً يقول الله لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:٢٢] فعند وزن الناس بأعمالهم عليك أن تزن بميزان عدل وميزان قسط، فلا تزن بميزان جور وميزان هوى والعياذ بالله.
عليك أن تدرك هذه المفاهيم جيداً ولا تكن أبداً يوماً عوناً للشيطان على إخوانك، فإن غلب الشيطان أخاك ثم جاء تائباً فافتح له صدرك لتقبل منه العذر.
ما حديث شارب الخمر بخفي عنكم: رجل يجلد لشرب الخمر ثم يذهب ويؤتى به ويجلد مراراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه والله ما علمته إلا يحب الله ورسوله).
إذاً: قد يذنب الشخص، لكن هذا الذنب لا ينزع عنه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخوك معتذراً فلا تسد أبواب الاعتذار أمامه بل افتح له الباب، وقل له: يا أخي كلنا نذنب.
غفر الله لي ولك، ستر الله عليّ وستر الله عليك، ووفقني الله وإياك، واستر عليه وساعده، واقبل منه الاعتذار حتى يصلح حاله، أما أن تغلق في وجهه الأبواب فما عساه أن يجني من وراء موقفك هذا، إلا أن يشرد عنك بل ويشرد عن الدين.
إذاً: إذا وجدت في مسلم من المسلمين خطأ وفيه مناقب فعليك أن تثني عليه بما تعلم من المناقب التي فيه، ثم تذكِّره عرضاً بالخطأ، وهذه طريقة مضطردة في كتاب الله، الله سبحانه وتعالى، فقد ذكّر نبيه داود صلى الله عليه وسلم فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:٧٨ - ٧٩] يعني: الولد وحتى يحفظ عرض داود أيضاً قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩] يعني: داود عنده فهم أيضاً فلا تظن غير ذلك.
لذلك قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩].
وقال الله سبحانه أيضاً في شأن يعقوب لما قال لبنيه: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:٦٧] إلى قوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:٦٨] ولكنه بين السبب فقال: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:٦٨] وحتى لا يأتي شخص ويقول يعقوب لا يفهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٦٨].
فإذا أردت أن تنتقد فانتقد وأظهر المحاسن التي في أخيك المسلم، كأن تقول لمن بدرت منه بادرة سيئة: أنت مخك نظيف وعقلك ناضج، لكن هذه فلتة فلتت منك فارجع إلى نظافة العقل، وآرائك السديدة التي نسمعها منك دائماً.
إذاً: لا تجعل الخطأ يأتي على كل المحاسن، فهذا نوع من أنواع الظلم -والعياذ بالله- بل افتح للناس باب التوبة وباب الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وسهله عليهم، وعرّف الناس بربهم وخالقهم وعلمهم أن الله رحيم حليم يغفر الذنوب جميعاً.