[متى تباح الغيبة]
والغيبة كما سلف محرمة أيما تحريم، ولكن كما هو معتاد في أمور المحرمات فإن الله سبحانه وتعالى جعل حالات يكون فيها المسلم مضطراً ويصيبه الحرج إن لم يغتب، فدفعاً لهذا الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت الرخصة بهذا الأمر، فكما أن لحم الميتة محرم وأكل الخنزير محرم لكن كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:١٧٣] فالمضطر ضرورته تقدر بقدرها، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:١١٩].
وهناك أحوال تلجئني إلى أن أذكر شيئاً في أخي يكرهه، فحينئذٍ إذا جاءت تلك الضرورة فإنها تكون بقدرٍ كما هو الحال مع أكل الميتة، وكما هو الحال مع التلفظ بكلمة الكفر.
فالأصل في الاغتياب أنه محرم إذ أعراض المسلمين محرمة كما سلف، وعندها يرد
السؤال
ما هي الأمور التي تباح فيها الغيبة؟ أول هذه الأمور: التظلم، وهي ذكر مظلمة ظلمني بها هذا الشخص، وقد قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] ففي هذه الآية جاءت أقوال العلماء، أحدها: إن من ظلم جاز له أن يجهر بالسوء من القول في حق من ظلمه، وثم قول آخر: إن من ظلم جائز له أن يدعو على من ظلمه، والقول الأول هو اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، أي: إنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم في عرض ظالمه.
ومن هذا الباب يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) والمطل من المماطلة، والمراد بالغني الغني الذي عليه دين وحل موعد السداد فيماطل، فمماطلته ظلم وفي حديث أبي داود بسند حسن: (لي الواجد ظلم) واللي هو المماطلة، والواجد أي الغني قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، أي: يحل لنا أن نتكلم في عرضه وأن نعاقبه، أما العقوبة فبالحد، فهذا الدليل الثاني على جواز الاغتياب لرد المظلمة.
ولكن لهذا ضوابط: أولاً: يقول ربنا: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] فمثلاً شخص أكل مالك، أو تأخر في سداد التزام لك عليه، فعرضه حلال ولك أن تقول: هو أكل مالي، لكن ليس لك أن تقول: هو يسرق، هو يزني، ابنته صفتها كذا، أخته صفتها كذا، أمه صفتها كذا؛ لأن الله يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتدِ المظلوم) (المتسابان ما قالا) هذا سب، وهذا رد عليه السباب، إثم ذلك كله على البادي منهما ما لم يعتد المظلوم، فإذا اعتدى المظلوم تحول الحق عليه بعد أن كان له.
فمثلاً: رجل أكل مالك فهو آثم بأكل مالك، فإذا ذهبت أنت تقول للناس: يا ناس! فلان أكل مالي، فلك ذلك، مع أن العفو أفضل؛ لأن الله قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:٦٠] لكن على كلٍ يجوز لك أن تنتصر بقدر المظلمة، فإذا صدر منك هذا واستطلت في عرضه قائلاً: هو يمشي مع النساء زوجته تمشي مع الرجال ابنته صفتها كذا وكذا، حينئذٍ سيأخذ هو من حسناتك وقد تفوق هذه الحسنات الدين الذي لك عنده، ويضيع حقك تماماً أمام الله سبحانه وتعالى بسبك وطعنك فيه، فإنك حينئذٍ قد تكون قاذفاً إذا أنت قلت فيه ما يدل على القذف.
ومن الأدلة على جواز غيبة الظالم بذكر مظلمته، ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود بسند حسن، أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان له جار يؤذيه، فذهب وشكاه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مرة بعد مرة والرجل لا ينتهي عن الظلم والأذى، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج متاعه إلى الطريق، فأخرج متاعه إلى الطريق، فمر به الناس وقالوا: ما هذا المتاع؟ قال: جاري يؤذيني، فكل من يمر يسب في هذا الجار، فلما بلغ الجار هذا الصنيع وهذا السباب ذهب إلى المظلوم وقال له: ارجع إلى بيتك فلن ينالك مني أذى بعد اليوم، فهذا من باب التظلم.
كذلك تجوز الغيبة في الاستفتاء، فقد جاء أن هند بنت عتبة شكت أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فهل عليّ جناح أن آخذ من ماله بغير إذنه -وهو لا يعلم- قال: خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف)، فوصفته بالشح وهو يكره ذلك، لكن كان المقام مقام فتيا فحينئذٍ لم يعنفها الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ويكون بقدر كما سبق.
وإن كان من أهل العلم من يقول: هذا جائز بلا شك لتجويز الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأولى أن تعرّض، تقول المرأة: ما رأيك في رجل شحيح لا يعطي زوجته ما يكفيها وولدها ولا تسمي، حتى تبتعد عن الغيبة، فالأفضل ألا تسمي ولا تذكر أحداً باسمه، مادام الغرض سيتحقق والفتيا ستنال.
ومن هذا الباب -باب الاستفتاء- كذلك مجيء امرأة رفاعة القرضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها: (يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده بـ عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله يا رسول الله! ما معه إلا مثل هدبة الثوب، وأشارت إلى طرف ثوبها -ولا شك أن زوجها يكره ذلك- قال عليه الصلاة والسلام: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى يذيق عسيلتكِ وتذوقي عسيلته).
ومما تجوز فيه الغيبة أيضاً عند الاستشارة كما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قائلة: (يا رسول الله! إن معاوية وأبا جهم فقال عليه الصلاة والسلام: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه لكن أسامة) أي: أشير عليك بـ أسامة بن زيد.
كذلك باب التعريف والبيان والتحذير، إذا كان رجلاً مشهوراً بالشر والفساد، مشهوراً بالاتجار بالمخدرات أو بالخيانة في النساء، أو بسرقة الأموال والسلب والنهب، جائز لك أن تحذر الناس منه، بل لزاماً عليك آنذاك أن تحذر الناس منه.
أقبل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بجوار عائشة رضي الله عنها، فقال لها: (بئس أخو العشيرة! فلما أقبل عليه ألان له النبي القول، قالت: قلت فيه ما قلت يا رسول الله! ثم ألنت له القول، قال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)، فهذا في باب المداراة.
وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (ما أظن فلاناً وفلاناً يعلمان من ديننا شيئاً) أو إذا كانت هناك مصلحة تعود على المسلمين بالنفع العام كما فعل زيد بن أرقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال عبد الله بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب زيد بن أرقم وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الخبر الذي كان.
ومن ذلك الجرح والتعديل لمن يتكلمون بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فرب رجل يكذب على رسول الله وهو لا يشعر، ونصح فلم ينتصح، فجدير بك أن تبين أمره، وهذا المسلك سلكه علماء الجرح والتعديل الأوائل كالإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وغير هؤلاء الأفاضل.
أما الشيعة فقلّ فقههم في هذا الباب وطفق قائلهم يطعن في ابن معين؛ لأنه طعن في رجال كثيرين من رجال الشيعة: ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والرقيب شهيد فإن يك حقاً فهي غيبة وإن يكن زوراً فالوعيد شديد وهذا من جهل هذا القائل فإن ابن معين كان ينافح عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويبين حال الكذابين الذين افتروا الكذب على النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهذه مواطن تشرع فيها الغيبة بالضوابط الشرعية التي سمعتموها، وقد صاغها بعض العلماء في أبيات شعر، وزاد بعضهم في هذه الأقسام التي ذكرت، وقلل بعضهم فيها، وأدمج بعضهم بعضها في بعض، والأمر في هذا كله قريب.
ثم في ختام هذا الدرس هناك أمور ينبغي أن تفعلها أنت حتى لا توقع الناس في اغتيابك، منها المداراة كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، فمداراة الناس مطلوبة، وكذلك إكرام الناس مطلوب، وكذلك اتقاء مواطن الشبهات، فلا تقف في موقف شبهة ومن ثمّ يطعن فيك الناس وأنت لا تشعر.