[مراعاة مراتب الناس وأحوالهم]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد: فإن التعامل بين المسلمين فن من الفنون التي ينبغي أن يعتنى بها.
وهناك لوازم وضوابط لنجاح التعامل بين الناس: منها: مراعاة مراتبهم وأحوالهم، فمراعاة أحوال الناس ومراتبهم من أسباب النجاح في التعاملات مع الناس، فكم من شخص يتحمل منك الكلمات الشديدة، وثم أشخاص لا يتحملون منك نظرة غضب فقط فضلاً عن الكلمات النابية الشديدة، فمن ثم كان لزاماً عليك أن تتعامل مع الناس بحسب أحوالهم.
ونذكر في ذلك واقعتين واقعتان حدثتا لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما الواقعة الأولى فحدثت لـ أبي بكر مع عمر، وعمر وهو رجل من فضلاء الصحابة رضي الله عنه، له قبيلته وقدره في قريش.
وأما الثانية فحدثت لـ أبي بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء الذين ليست لهم قبائل في مكة ولا في المدينة.
ولتنظر كيف تعامل أبو بكر مع هذا؟ وكيف تعامل مع هؤلاء؟ ولتنظر ما هو تعقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التصرفات؟ أولاً: كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر عن نفسه: وكنت أنا أظلم.
يعني: أنا الذي كنت مخطأ في حق عمر رضي الله عنهم، وكل الناس تخطئ.
قال: (أخطأت في حق عمر فذهبت إلى عمر رضي الله عنه أعتذر إليه من خطئي، فلم يقبل عمر العذر، فذهب أبو بكر حزيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد كان بيني وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيء، وأنا والله يا رسول الله كنت أظلم، فذهبت فاعتذرت إليه فلم يقبل عذري.
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً.
ثم إن عمر أيضاً أحس بخطئه فكيف يأتي أبو بكر يعتذر إليه ولا يقبل عذره؟ فانطلق مسرعاً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا له: إن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول جالس مع أصحابه وأبو بكر بجواره، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر، قام مغضباً في وجهه غاية الغضب، وقال: هل أنت تارك لي صاحبي يا ابن الخطاب؟ صدقني إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني، فوالله لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل.
لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر؛ واستمر عليه الصلاة والسلام في لوم عمر رضي الله عنه وتأنيبه)، وأبو بكر يقول: (أنا أظلم يا رسول الله).
ورد في بعض الروايات خارج الصحيح (استغفر لي يا رسول الله، وإذا لم تستغفر لي من يستغفر لي يا رسول الله).
ثانياً: أبو بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء: (مر أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال فقال سلمان وصهيب وبلال: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها عام الفتح) أي: كان ينبغي أن يقتل هذا الرجل المؤذي الذي كان يؤذي رسول الله، (فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! صدر من سلمان وبلال وصهيب كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر -الذي كان ينتصر له في موقفه مع عمر لكن مع هؤلاء الضعفاء ماذا قال؟ - قال: أأغضبتهم يا أبا بكر؟ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل.
فانطلق أبو بكر سريعاً إلى إخوته وقال: أغضبتكم يا إخوتاه؟ قالوا: غفر الله لك يا أخانا).
إذاً: أحوال الناس تختلف، الضعيف والمسكين خاطره يكسر بكلمة، بل بنظرة، لكن الآخر الصلب يتحمل إذ هو يستطيع الدفاع عن نفسه، ولذلك كان التعامل مع الأيتام يحتاج إلى دقة ورقة، والتعامل مع الكبار البالغون، غير التعامل مع الصغار والأيتام.
فلابد أن تفهم هذه الطرق في التعامل مع الناس، من الذي أمامك؟ ما هو قدر تحمله لك، هل هو كبير السن يحتاج إلى توقير؟ أو شاب مثلك يحتاج إلى أن تتعامل معه معاملة الند للند؟ أم هو أصغر منك فيحتاج إلى أن ترحمه؟ أو هو امرأة ضعيفة العقل تحتاج إلى تطييب الخاطر؟ أو هو سفيه يحتاج إلى المداراة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً مقبلاً فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما قدم ألان له صلى الله عليه وسلم القول، مع أن الرجل سيء وبذيء الأخلاق.
وقد ألان له الرسول صلى الله عليه وسلم القول، ليس عن جبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رياء أبداً، بل دفعاً لسفهه وطيشه، في نفس الوقت الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام فيه: (بئس أخو العشيرة).
فتراه صلى الله عليه وسلم يشتد على الأفاضل من أصحابه، كالثلاثة الذين خلفوا، جاءوا واعتذروا إلى الرسول وقالوا: (تخلفنا يا رسول الله وليس لنا عذر)، ومنهم هلال بن أمية وهو بدري -شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك هجرهم الرسول عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة.
فأحياناً يعتذر إليك شخص وتشدد في قبول اعتذاره، ويعتذر شخص آخر اعتذاراً واحداً وتقبل منه العذر.