للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترك الكلام إذا لم تكن فيه فائدة]

تتأكد قلة الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فإذا لم يكن في الكلام فائدة فليمنع الكلام حينئذٍ، هذه مريم عليها السلام لما أتت قومها بعيسى عليه السلام تحمله، وهي تدرك أن القوم لن يصدقوها إذا تكلمت؛ لأن عندهم لا يتصور أن امرأة تلد بلا زواج ولا بغاء، لكن الله على كل شيء قدير، فعند ذلك قال الله لها: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:٢٦]، فإذا كان الكلام لن يجدي فلا داعي للكلام حينئذٍ.

وهؤلاء الفتية أصحاب الكهف العقلاء المسددون الموفقون، لما قاموا من نومتهم التي ناموها، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:١٩]، فتدخل أحدهم قائلاً: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:١٩] أي: لا داعي لمواصلة الكلام في اللبث الذي لبثناه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:١٩].

وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول له ربه تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢].

فإذا لم يكن في الكلام فائدة فليمنع الكلام حينئذٍ، أما إذا كان الكلام بغير علم فحينئذٍ يقع الشخص في الحرام، فالله قال في كتابه الكريم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦] وقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥].

فيؤمر الشخص بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن عنده علم بما يتكلم به، ويؤمر بالإمساك عن الكلام إذا لم يكن في الكلام فائدة، فهذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجادل الملائكة، فيقول الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:٧٦].

وتقدم على مسامعكم -معشر الإخوة- قول نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا)، فكثيراً ما تكون النجاة في الصمت، وكثيراً ما تكون النجاة في السكوت، إلا إذا كان ثم مقامٌ ستضيع فيه الحقوق فيلزمك حينئذٍ أن تتكلم بالحق الذي علمت، ولا تكتم الحق إذ الله قال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:٢٨٣] ويجدر بي أن أذكر بحديثين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أولهما: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن) فهذا حديث في ذم الذي يشهد دون أن تطلب منه الشهادة.

وثم حديثٌ آخر: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه)، كيف الجمع بين الحديثين؟ إذا كانت الحقوق ستضيع للخوف من ذي سلطة وذي بأس فحينئذٍ (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن تطلب منه)، أما إذا كانت الشهادات بالمجاملات فحينئذٍ: قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) يتنزل على أمثال هؤلاء.

وفقنا الله وإياكم لحفظ ألسنتنا، وصلى اللهم على نبينا محمد وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.