وقفةٌ مع هذه الآية الأخيرة:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[الأنعام:٣٥]، آيةٌ من الآيات التي تؤصل الإيمان بالقدر، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
فلتعلم يا محمد! ولتعلموا يا عموم البشر! أن أمر الهداية ليس بموكول إليكم، إنما هو إلى الله سبحانه، وأن أمر القلوب ليس بموكول إليكم، إنما هو إلى الله سبحانه وتعالى، فمن ثم لا تذهب أنفسكم حسرات على من أضلهم الله، وعلى من أغواهم الله سبحانه وتعالى، فإن ذهاب النفس حسرات على المبتعدين عن طريق الله نوع من أنواع الجهل، ونوع من أنواع عدم العلم بالله، ونوعٌ من أنواع التخبط، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، قال الله سبحانه وتعالى لنوح عليه الصلاة والسلام إذ أخذته الشفقة على ولده فقال وقد رأى ولده يغرق أمام عينيه قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود:٤٥ - ٤٧]، ففيه جواز الاستدارك بعد الدعاء، فإذا دعوت ربك بدعوة رأيت أن بها خللاً وأنها لا تجوز، جاز لك أن تضرب عنها، وأن تسأل ربك سبحانه عدم تحققها، ولذلك أدلة، فإذا دعت أمٌ على ولدها ثم ندمت، فتعقب ذلك بدعاء آخر ألا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعوتها، فهذا إبراهيم الخليل دعا ربه بالمغفرة لأبيه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:١١٤]، ولما دعت الأم لولدها أن يكون مثل الفارس:(اللهم اجعل ابني مثل هذا، قال الولد: اللهم لا تجعلني مثله)، فيجوز لك أن تعقب الدعوة التي لم ترها سديدة بدعوةٍ أخرى.
نرجع إلى ما كنا بصدده: ألا وهو أن أمر الهداية بيد الله سبحانه، وليس بأيدينا، قال تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:٦٣]، وقال الله سبحانه:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[يونس:١٠٠]، فإذا علمت هذا فلا ينبغي أن تذهب نفسك حسرات على أحدٍ من الناس، لا على ولدٍ، ولا على زوجٍ، ولا على أخٍ، ولا على أب، ولا على صديق، فإنا وإن حزنا لعصيان من عصى، فينبغي ألا يتمادى بنا حزننا إلى أن نجهل، وأن نتدخل في أمر الله، فلعقولنا طاقة، وربنا هو الذي أحاط بكل شيء علماً، والله أعلم بالمهتدين، وأعلم بمن يستحق الغواية فيغوى، ويعلم من يستحق الهداية فيهديه سبحانه، فلا تذهب أنفسنا حسرات على ابتعاد من ابتعد، وعلى ردة من ارتد، وعلى شرود من شرد، فلله الأمر من قبل ولله الأمر من بعد، إننا قد نحكم على أمر من الأمور بحكم فيما ظهر لنا وبدا، ويكون في الأمر ووراء الأمر ما هو أعظم من ذلك، وما هو بخلاف ذلك.