[كظم يوسف عليه السلام لغيظه]
قال الله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}.
يقول أهل العلم: ينبغي أن يتسم المدير أو القائم أو المسئول بضبط النفس وكظم الغيظ ولا يكون طائشاً متهوراً، فيوسف عليه السلام لم ينفعل بل كان كما قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} فلنستق أخلاقنا من كتاب ربنا ومن سير أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠].
قال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٧٨] ((قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ)) فيه: جواز إطلاق لفظ (العزيز) على بعض البشر.
{إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} فتوسلوا إلى يوسف بشيخوخة أبيهم، وبكبر سن والدهم، فللكبير حق معروف عند المتقدمين والمتأخرين، وإلى هذا الأدب مع الكبار أرشدنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منّا من لم يوقر كبيرنا) وقال عليه الصلاة والسلام (رأيتني الليلة أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) وجاء حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب أصغرهما يتكلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) فالكبير له حق، ويجب أن يعطى حقه، فكم سجد هذا الكبير من سجدة! وكم ركع من ركعة! وكمن ابتلي فصبر! فله حق ينبغي أن يؤدى إليه، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام من المقدمين في الإمامة عند تساوي الحفظ الأكبر سناً حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً) هكذا للكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه ولا يضيع.
وهذا عبد الله بن عمر يعلمنا أدباً لزمه مع الكبار عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن أخبروني ما هي؟) قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة) الشاهد من ذلك: أدب ابن عمر مع كبار السن، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٧٨] فعلامات الإحسان على يوسف بادية وظاهرة، وهكذا كما قال تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:٢٩].
قال الله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:٧٩] وهكذا الأمور فلا تزر وازرة وزر أخرى وهذا مما كان في الصحف الأولى {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:١٩] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:٣٦ - ٣٨] وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:١٦٤].
قال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} فإن فعلنا ذلك {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:٧٩].
قال الله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} كان بعض الأعراب يعجب غاية العجب من هذا الأسلوب في كتاب الله، وذكر بعض السلف رحمهم الله أن هذا اللفظ: ((خَلَصُوا نَجِيًّا)) حمل البعض على الإسلام، انظر إلى دقة التعبير، فقد كانوا يتذوقون القرآن ويفهمونه، وعلى قدر بصيرتك وتقواك وإيمانك تفهم كتاب الله.
وعرضاً أذكر أثراً -وإن لم يسعفني الوقت لتحقيقه- فقد كان ابن عباس يفهم كتاب الله، والأثر فيه: أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان إذا صلى الفجر دخل مجلسه ودخل معه حملة القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدخل معهم عبد الله بن عباس، فيتدارسون القرآن ويتلوه تالٍ، ويؤله مؤول، ويفسره مفسر، فدخل ابن عباس مع أمير المؤمنين عمر ومعه رجال من الصحابة رضي الله عنهم، فبدأ التالي يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:٢٠٤] وابن عباس ينصت تمام الإنصات {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥] وابن عباس ينصت، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦] وابن عباس ينصت وينتبه، ثم قرأ القارئ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧] فضرب ابن عباس وبشدة رجل جليسه، وصاح: (اقتتلا والله اقتتلا والله، قال عمر متعجباً: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا أن يتكلم، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! قال: يا أمير المؤمنين! قلت: اقتتلا والله، اقتتلا والله.
فقال عمر: من هما يا ابن عباس؟! قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إن الله ذكر في كتابه رجلاً مجرماً أصبح والياً أو أميراً، فلما تولى {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} يقتل هذا، ويضرب هذا، ويسمم بهائم هذا، ويحرق ثمر هذا، فقام له قوم يذكرونه ويقولون له: اتق الله، فما يزيده التذكير إلا فساداً، وتأخذه العزة بالإثم، فقام رجل مؤمن محتسب شرى نفسه ابتغاء مرضات الله لوقف زحف هذا العدو الصائل فحصلت المعركة بينهما.
انظر كيف كان ابن عباس يسير مع الآيات ويفهمها رضي الله عنه.
قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:٨٠ - ٨١].
فقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} أي: هذا الذي رأيناه، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:٨٢].
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: اسأل أهل القرية.
ومن العلماء من قال: القرية على ظاهرها، فإن الأنبياء لهم ما ليس لغيرهم، إن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ إني أعرفه الآن) أخرج ذلك مسلم في صحيحه.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: واسال القرية واسأل العير.
وإن المتأمل لهذه الآيات ليرى عظيم الابتلاء الذي حل بيعقوب عليه الصلاة والسلام، فتخيل إذا رجعت القوافل كلها آمنة مطمئنة، ورجعت قافلتك وأحد أبنائك فقد لسرقته، ماذا سيكون؟ فابتلاؤه صلى الله عليه وسلم شديد، إذا يرجع الناس آمنون مطمئنون وابن يعقوب عليه السلام يرجع وقد سرق وأخذ كعبد مسترق مقابل السرقة إنه لبلاء عظيم!!