[التفكر في أسماء الله وشرعه ومخلوقاته]
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:٦١] أما البروج فهي النجوم، ويقول أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى كما أنه يُتَعَبَّد بصلواتٍ وزكواتٍ وحجٍ وصيامٍ وصدقاتٍ واعتمارٍ وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، كذلك فالرب سبحانه وتعالى يُتَعَبَّد بأشياء أخر، ومن هذه الأشياء التي يُتَعَبَّد بها الرب، ويثبت لصاحبها الثواب: التفكر في آلاء الله سبحانه.
فالتفكر والتدبر يثاب عليه العبد، كما يثاب على الصلاة، وكما يثاب على الصيام، وكما يثاب على الحج، ومن ثم جاءت نصوص الكتاب العزيز، بل ونصوص السنة المطهرة، تحث على التفكر وعلى التدبر والتأمل، قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١].
وقال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:١١].
والأمور التي يُتَفَكَّر فيها ويُتَدَبَّر بالنسبة لربنا سبحانه وتعالى ثلاثة أمور: الأول: التفكر في شرع الله سبحانه، كيف أنه شرع حكيم، يدعو إلى كل خير، وإلى كل بر، وينهى عن كل رذيلة وعن كل شر ومكروه، فالتفكر في شرع الله شيء مطلوب.
الثاني: التفكر في أسماء الله الحسنى، وكيف أنها كلها حسنى.
الثالث: التفكر في آلاء الله، وفي مخلوقاته سبحانه وتعالى.
فإذا تفكرت في شرع الله تجد أنه حقاً كما قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢]، فليس في كتاب الله آية تدعو إلى رذيلة أو فسق عياذاً بالله!، بل كله يدعو إلى الخير، وكله يدعو إلى الفضيلة.
حفظ الله لنا بهذا الكتاب العزيز عقولنا، فحرم علينا الخمر التي تقود الرجل المتعاطي لها إلى أن يعبث بعذرته! وإلى أن يعبث بأمه! وإلى أن يعبث بأخته! فقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩٠ - ٩١].
حفظ الله لنا بهذا الشرع أعراضنا، فلم يسوِّغ لأي أحد أن ينتهك أعراض المسلم، لم يسوغ لأي أحد أن ينظر إلى امرأتك، أو إلى ابنتك، أو إلى أختك، أو إلى أمك، مجرد النظر، قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠].
وحرم الله الزنا، الذي به تختلط الأنساب.
وحرم الله على الناس أموالنا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:٢٩].
وقال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه).
وكذلك حفظ الله سبحانه وتعالى دماءنا، فنهانا ابتداءً عن أن نشير بسلاح في وجوه إخواننا: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أخرج سيفه من غمده، فقال: ألم أكن نهيتكم عن هذا؟! لعن الله من فعل هذا).
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار).
الحديث.
فحفظت أعراضنا بهذا الشرع الكريم، وحفظت أموالنا، وحفظت عقولنا، وحفظت دماؤنا، وحفظت كذلك تصوراتنا، فليس لك أن تصول وتجول بفكرك كيف تشاء! بل ضُبِط ذلك منك، فهذا شيء من هذا الشرع الحكيم الكريم المجيد.
أما أسماء الله فتفكر في أسماء الله، إذا كنت -على سبيل المثال- محاسباً تعمل في شركة، كيف أنك ترهق غاية الإرهاق من إتمام حسابات هذه الشركة، أو إتمام جزء منها.
فتصور أن الله سبحانه يحاسب كل عبد من عبيده، ليس فقط على عمله وليس فقط على قوله، إنما يحاسبه كذلك على أعمال قلبه، ويعلمها سبحانه، ويثيب عليها ويعاقب، إن كانت خيراً فخير، وإن شراً فشر، وليس أنت وحدك المحاسَب، بل كل الخلق يحاسبون، وليس بنو آدم فحسب، بل الإنس والجن كذلك يحاسبون، وليس الجن والإنس فحسب، بل كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (لتؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجَلْحاء من الشاة القَرْناء)،: (رأى النبي عليه الصلاة والسلام -كما ورد في بعض الروايات- شاتين تنتطحان، فقال لبعض جلسائه: أتدري فيم تنتطحان؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: لكن الله يدري، وسيؤدِّي لكل منهما حقها) فالشاة الجَمَّاء يقاد لها من الشاة القَرْناء، وهكذا.
فربنا سبحانه وتعالى يحاسب الخلق أجمعين.
فتفكر في هذا واعقله جيداً وافهم كيف أنه سريع الحساب.
الدود في الصخور الصماء، والطيور في أوكارها، والوحوش في غاباتها، والحيتان في عالم البحار، كل ذلك يعلمه الله، ويعلم مستقر ومستودع ذلك كله سبحانه وتعالى، يعلم سعي الجميع، هذا السعي المتنوع المختلف يعلمه ربنا سبحانه، وسيجازي الجميع عليه.
واخرج يوماً من بيتك قاصداً سوقاً من الأسواق أو تجمعاً من التجمعات، وانظر إلى الغادي والرائح من الناس، اخرج فقط للتفكر في أحوال الناس، هذا غادٍ وهذا رائح، هذا كئيب حزين، وهذا مبتسم مسرور، فمَن الذي أضحك؟! ومَن الذي أبكى؟! إنه الله الذي أضحك وأبكى.
تفكر في أحوال الناس! وانظر إلى أشكال الناس! هل ترى في الخلق شخصاً يشبه الآخر؟! ترى هذا يهتم ويجري، وهذا متكاسل، هذا ذكي ونبيه، وهذا متخبط بليد لا يدري ماذا يصنع، والجميع يعلم أحوالَهم ربي سبحانه وتعالى.
تفكر في نفسك! مَن أنت في وسط هؤلاء الناس؟! وإلى أين مصيرك؟! وإلى أين تسير؟! تفكر في أصوات الناس ولهجات الناس وبناء أجسام الناس! هذا خفيف الدم، وهذا ثقيلٌ بارد، ثقيلٌ على القلب، لا تستطيع أن تخاطبه، هذا دمه يجري ويرغِّبك في النظر إليه، هذا طويل فارع، وهذا قزم قصير، والخلاق والعليم هو الله سبحانه وتعالى.
فكر في هذا جيداً! وأرجع البصر إلى السماء، وانظر! هل ترى فيها ثقباً واحداً؟! ثم ركِّز البصر مرةً ثانية ينقلب إليك البصر خاسئاً مكروباً وهو حسير، أي: كئيب متعَب؛ إذ لم يستطع أن يكتشف شيئاً فيه خلل، لم يستطع أن يكتشف ثقباً واحداً.
انظر إلى الرياح وسرعتها في يوم، وحملها للغبار، وانظر إلى لينها وبطئها في يوم آخر! مَن الذي سخرها؟! ومَن الذي ذلَّلها؟! هذه أمور يلزمك أن تتفكر فيها، فالتفكر فيها نوع من أنواع العبادة.
جُزْ ببصرك إلى السماء، وانظر إلى الطير وهي صافات، ثم هي تقبض أجنحتها، ما يمسكها إلا الرحمن، ولا يعلم فيمَ تفكر إلا الرحمن! ثم ارجع فانظر ثانيةً إلى البحار، إلى حوت كبير متوحش، يأكل الأسماك ويلتهمها، وإلى تمساح، وإلى سمكة أخرى ضعيفة هي المأكولة ليست هي الآكلة! انظر إلى حكمة الله في هذا الخلق كله! وانظر إلى الغابات، وما فيها من الحيوانات، منها: طائفة محترمة، وطائفة جائرة ظالمة.
منها: طائفة تُؤْلَفُ وتُؤَلَّفُ، ومنها طائفة أخرى لا تُؤْلَفُ ولا تُؤَلَّفُ.
منها: طائفة عُرِف من خصالها كرم الأخلاق والوفاء، وطائفة أخرى عُرِف من خصالها الغدر والخيانة، طائفة عُرِف من خصالها الذكاء الخارق، وطائفة عُرِف عنها الغباء والبلادة، كل ذلك يعلمه ربي سبحانه وتعالى، طائفة تعلمت المكر، وأخرى تختال في مشيتها، والكل يعلمه ربي.
كذلك طيور بيضها قليل ونسلها قليل؛ ولكن عمرها مديد وبأسها شديد، كالنسور، وطيور أخر تتكاثر بالملايين آناء الليل وأطراف النهار؛ لكن موتها سريع وأجلها قريب.
فهَبْ أن هذه النسور تتكاثر تكاثر العصافير، إذاً لأذهبت الأخضر واليابس.
انظر إلى هذه المرأة الدميمة، وانظر إلى تلك الجميلة الحسناء، والكل مآله إلى قبر موحش مظلم! فانظر إلى حكمة الله! فهذه أمور يُتَعَبَّد الرب سبحانه وتعالى بها.
فاخرج يوماً بعد يوم، واخلُ بنفسك يوماً بعد يومٍِ وفي وسط الأشجار كذلك، هذه زهرة حمراء تأتي إليها نحلة تمتص رحيقها، وفي الوقت نفسه وبجوارك عذرة ملقاة يأتيها الذباب! فسبحان الذي خلق الخلق وقدَّر المقادير، الذي قدَّر فهدى سبحانه وتعالى! اخرج يوماً خصيصاً لهذا النظر! وانظر إلى نفسك وما حواه جسمك من خلق شديد في زمن من الأزمان! انظر إلى طبيبِ تشريحٍ كيف يشرح الرجل! وانظر إلى طبيبِ أمراضٍ للقلب وكيف يجري عمليات القلب، وكذلك تشريحات المخ، وكيف تكون! وكيف يدار الجسم! انظر إلى الدورات الدموية وإبداع الله سبحانه وتعالى لخلقه.
فهذا نوع من السؤال غفل عنه الكثيرون! كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقوم إذا ذهب شطر من الليل ينظر إلى السماء قائلاً: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]: أي: قائلين: يا ربنا! (ما خلقت هذا باطلاً)، أي: عبثاً (سبحانك) فأنت لا تعبث، سبحانك! أنت لا تلعب {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:١٩١ - ١٩٢]، ثم يناجي ربه: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:١٩٣]، يقرأ العشر آيات خواتيم آل عمران