للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قبض العلم بموت العلماء]

تقدم أن العلم يقبض بقبض العلماء، وفي الحقيقة أنه قد مضى من أمة محمد علماء أجلاء، خيرهم وأفضلهم على الإطلاق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان لنا معزى فعزاؤنا برسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، سيد ولد آدم، فخير معلم هو عليه الصلاة والسلام، فمن أراد أن يتذكر مصيبته فليتعز بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جرى عليه ما يجري على البشر، حتى قالت ابنته فاطمة لـ أنس بعد أن أتى من دفنه عليه الصلاة والسلام: يا أنس! أطابت نفسك أن تحثو على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟ ولكن {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:٣٨]، مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهم خير قرن، وخير أمة أخرجت للناس، مات الصحابي الجليل أبي بن كعب الذي كان سيداً من السادات، وكان أعلم الناس بالقراءات كما قال عمر: (أقرؤنا أبيُّ، مات الحَبر ابن مسعود الذي قال عن نفسه: (والله! ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين أنزلت وفيمن أنزلت، فوالله! لو كنت أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه المطايا لأتيه)، كل ذلك قال والصحابة لا يردون عليه بشيء، احتراماً لعلمه وتقديراً لقدره، حتى أن عمر نظر إليه وقال: (كنيف ملئ فقهاً رضي الله تعالى عنه).

مات كذلك أعلم الصحابة بالفرائض: زيد بن ثابت العالم الجليل الذكي التقي، تعلم لغة قوم في خمسة عشر يوماً لما أمره رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعلم السريانية، مات وذهب يشيع جنازته عبد الله بن عباس الذي كان في يوم من الأيام يأخذ بلجام الدابة ويبركها له، فيقول زيد بن ثابت: (يا ابن عم رسول الله! دع عنك لجام الدابة، فيقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وبعظمائنا وبكبرائنا، ويأخذ له بلجام الدابة ويبركها له)، فينزل زيد لـ ابن عباس ويقبل رأسه ويقول: (هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام)، تواضع متبادل من الطرفين، كل يعطي الآخر حقه الذي هو له، ولا يبخسه حقه، مات زيد بن ثابت وذهب ابن عباس يشيع جنازته؛ فدفن زيد وأهيل عليه التراب، فقال ابن عباس وهو ينظر إلى التراب الذي يهال عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد دفن اليوم علمٌ كثير).

ولما مات حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعلمه رسول الله بأسماء أهل النفاق، كما في أحاديث الفتن، لما أدركته الوفاة التي كتبت على العباد، ما كان يزكي نفسه بأنه ليس من أهل النفاق، لا يزكيها ولا يثني عليها، وكذلك من حوله، ينظر إليهم حذيفة فيقول: (اللهم! إني أعوذ بك أن يكون ممساي في النار) هكذا يقول حذيفة تواضعاً منه رضي الله عنه وأرضاه.

إلى غير هؤلاء العلماء الكرام من التابعين كـ ابن المسيب وعروة وقتادة، ثم من بعدهم كـ مالك والشافعي وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم من العلماء، ثم غير هؤلاء كثير، جمٌ غفير: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:٨].

كل هؤلاء الكرام لم يكونوا معصومين من الأخطاء، كلهم جهلوا مسائل وعلموا مسائل، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:٧٦]، كل الصحابة والتابعين وأتباع التابعين منهم من أفتى وأصاب في فتواه، ومنهم من أفتى فتاوى جانبت الصواب، أما نحن أهل الاتباع فلا يسعنا أن نتابع أحداً على مسألة أخطأ فيها أياً كان شأنه بعد ظهور الدليل من كتاب الله ومن سنة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.