للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإكثار من الاستغفار]

كان أهل الفضل والصلاح يعملون أعمالاً صالحة ويسألون الله قبولها، فها هو الخليل إبراهيم عليه السلام مع ولده إسماعيل يرفعان القواعد من البيت ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٢٧]، يبنيان الكعبة، وأي بناء أفضل من بناء الكعبة؟ يرفعان القواعد من البيت ومع رفعهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٢٧].

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يذبح متقرباً إلى الله بذبيحته وبأضحيته ويقول مع ذبحه: (باسم الله، اللهم تقبل من محمد، ومن آل محمد، ومن أمة محمد)، بل وأهل الإيمان عموماً كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] وفي حديث حسنه بعض أهل العلم الفضلاء، أن عائشة سألت النبي صلى الله عيه وسلم عن قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] قالت: (يا رسول الله! هذه الآية في قوم يسرقون ويزنون ويخافون العقاب؟ قال: لا يا بنت الصديق، إنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه).

فلزاماً علينا معشر الإخوة، أن نسأل الله أن يتقبل منا كل عمل صالح، فقد تكون الأعمال قد شيبت بالرياء، والرياء يدمرها، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] وقال سبحانه في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وقال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تبارك وتعالى إذا جاء الناس بأعمالهم يوم القيامة: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء؟) فتذهب الأعمال سدى ويذهب الجهد سدى، قال تعالى في شأن أقوام: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٣ - ١٠٤].

فكم من مجاهد تسعر به النار أول من تسعر! وكم من متصدق تسعر به النار أول من تسعر! وكم من عالم وطالب للعلم تسعر بهم النار أول ما تسعر -والعياذ بالله- كل ذلك إذا ابتغي بالعمل غير وجه الله سبحانه وتعالى.

فلزاماً أن تسألوا ربكم تبارك وتعالى القبول، قبول الصلوات، قبول الزكوات، قبول الأعمال، فإن الله قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧]، وأمام ركام السيئات، وجبال الخطايا لابد وأن تقدموا لها استغفاراً يليق بها.

ولا يزكي أحدنا نفسه؛ لأن من شأن أهل الفضل والصلاح احتقار النفس في ذات الله والاستغفار، فإذا كان الأنبياء هذه حالهم، آدم عليه السلام وزوجه يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] ونوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض يقول: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:٤٧]، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:٨٢]، وموسى الكليم يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:١٦]، وداود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:٢٤]، وسليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥].

نبينا صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: (إنه يغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، وفي حديث آخر: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة) ثم يعلم أصحابه ذلك، يقول أبو بكر: يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الصديق: (يا أبا بكر قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).

ثم إن ربكم يناشدكم جميعاً أن ترجعوا إليه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣١] ثم إن الله يذكرنا فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:٦٤] ويقول في آية ترق لها القلوب: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:٢٧] ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٩٩].

فيا معشر الإخوة! استجيبوا لربكم إذ أمركم بالاستغفار، إذ ينزل إلى السماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل فيقول: (هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟) ماذا بعد ذلك؟ ماذا تريدون من ربكم سبحانه، الكريم الحليم الغفور الرحيم؟ وينادي في الثلث الأخير: من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأجيبه؟