هنا أيضاً في هذه البلدة -جزى الله أهلها خيراً- يقف واقف عند القبر ويقول: من له دين على الميت فقد أحيل الدين على فلان، فأخوه فلان متكفل به، جزاه الله خيراً على هذا القول، لكن تبين أن كثيراً من هؤلاء يكذبون، يقولون هذا عند القبر، وبعد أن ينصرفوا من القبر يأتي أصحاب الديون يطالبونهم فإذا بهم يماطلون، أول يوم تأخذهم الشفقة على الميت، ثم يئول بهم الأمر إلى الترك، فنقول: إن هذا الصنيع الآن جرى من طرف واحد ولابد أن يرضى الذي أحيل دينه على هذا، وإلا فالذمم ما زالت متعلقة، أعني: إن ذمة الميت لا تبرأ إلا إذا وافق صاحب الدين على الإحالة، قال النبي عليه الصلاة والسلام (من أحيل على مليء فليتبع)، لكن إذا مات شخص وهو مدين ومثقل بالديون، فجاء أخوه وقال: من له دين فهو عليّ فهل بهذا تبرأ الذمة؟ هب أنه وجد أن الديون كثيرة؛ يعني قال: من له دين فعليّ، وكان يظن أن الذي عليه فقط ألف جنيه وبوسعه أن يتحملها، فإذا به يفاجأ أن الديون مائة ألف، فهل نقول: عليك المائة ألف كاملة؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:٢٨٦]، وتبقى ذمة الميت محملة بالدين، صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز لما قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله! قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم)، فقال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله! ولم يستفصل الرسول عليه الصلاة والسلام عن قدر الدين كم هو، هذا محله أن يكون في حيز المستطاع، وأن يكون القائل: علي دينه رجل من الأمناء، أما إذا كانت أموال الناس ستضيع فكم من شخص مسرف على نفسه قال: عليّ دين الميت، فذهب الناس يطالبونه بعد أسبوع من موت الميت، فإذا به يسبهم وإذا به يشتمهم، فحينئذ إذا أقر صاحب الدين بالحوالة أي بأنه قبل بأن يتحول دينه على فلان حينئذ تبرأ ذمة الميت، تبرأ ساحة الميت، فينبغي أن يذهب إلى أصحاب الديون! ويقال: يا أصحاب الديون أنتم رضيتم أن يحال الذي لكم على فلان من الناس إن قالوا: قبلنا، برأت ساحة الميت، وسقطت عنه كل الديون، وتحولت إلى الذي تحمل هذه الحمالات، وإن لم يرضوا بذلك لفجور أو للمماطلة في الذي أحيل عليه أو لفقر الذي أحيل عليه حينئذ ذمة الميت ما زالت متعلقة بالدين، وتؤخذ الديون من أصل الميراث الذي تركه هذا الميت.
هذا ما أردنا أن نبينه، وإن كان في المسألة خلاف، لكن هذا الذي ظهر والله سبحانه أعلم بالصواب، وأعلم بتأويل كتابه، وأعلم بسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان مما نقول من خطأ، ونسأل الله أن يلهمنا وإياكم الصواب في القول والعمل.
اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم! ألف بين قلوب عبادك المؤمنين، وخذ بأيديهم إلى النصر والتمكين يا رب العالمين! يا مجيب السائلين! وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.