وبعد: معشر الإخوة: في كل يوم نشيع ميتاً، سواءً كان قريباً، أو حبيباً، أو حتى عدواً، وسواء كان عالماً، أو جاهلاً، نشيع صغيراً أو نشيع كبيراً، نشيع شاباً أو نشيع شيخاً، نشيع طفلاً رضيعاً أو نشيع عجوزاً شمطاء، والله سبحانه وتعالى كتب الآجال على العباد، وما أحد منا يدري متى أجله، فإن الله استأثر بهذا العلم عنده سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤]، والعقلاء منكم يفهمون ذلك، فمنا من كان يصلي معنا في الأسبوع الذي مضى، وهو الآن مع المقبورين، ولا ندري نحن عن أنفسنا هل نحن غداً في عداد الأحياء وفي عداد أهل الدنيا أم أننا من أهل القبور؟ الله أعلم بذلك كله، فإن الشخص ينام ولا يدري هل هو ممن قال الله فيهم:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:٤٢] ? معشر الإخوة: كل نفس ذائقة الموت كما أخبر ربنا سبحانه وتعالى، والموت في نفسه مصيبة كما قال الله سبحانه:{فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}[المائدة:١٠٦]، وللموت سكرات، فرسولنا اعترته بعض هذه السكرات، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد حضرته سكرات الموت ويده في ركوة فيها ماء، فجعل يمسح رأسه وجبينه ويقول:(لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)، هذا وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإن كان للموت سكرات، وإن كان لنزع الروح آلام، وإن كان الفراق يؤلم ويوجع ويحزن؛ لكن ثَم ما هو أعظم، وهو أن يموت العبد مفرطاً في حق الله، فليس كل ميت يبكى عليه، أما البكاء حق البكاء فهو على رجل مات مفرطاً في جنب الله، مضيعاً لحقوق الله، البكاء حق البكاء على رجل مات تاركاً للصلاة متوعداً بقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:٤ - ٥]، متوعداً بقوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[مريم:٥٩]، البكاء حق البكاء على امرأة ماتت متبرجة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المتبرجات:(صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)، البكاء حق البقاء على رجل مات وهو آكل للربا، أو آكل لأموال الناس بالباطل، أو آكل لأموال اليتامى ظلماً، هذا الذي ينبغي أن تتصدع عليه الأكباد، ولذلك جاءت أم حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان حارثة قد قتل ببدر أصابه سهم غرب، لا يعرف راميه فقتله- وقالت:(يا رسول الله! أخبرني عن حارثة، أخبرني عن ولدي، فوالله! يا رسول الله! إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع) فإن كان غير ذلك حق لها أن تبكي عليه وأن تتوجع وأن تتألم، أما إن كان في الجنة فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لما نعى إلى أصحابه زيداً وجعفر وابن رواحة:(وما يسرهم أنهم عندنا)، وفي رواية:(وما يسرنا أنهم عندنا)، فهكذا قالت أم حارثة:(يا رسول الله! أخبرني عن حارثة إن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك ليرين الله ما أصنع)، فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام:(أوهبلت يا أم حارثة؟ إنها جنان، وإن ابنك قد أصاب الفردوس) فلها حينئذ أن يسكن حزنها، بل ولها أن تبتهج وتسر.