ولا تقتصر أنواع المواساة على من ابتلوا بالموت، بل يواسى الفقراء أيضاً، ويواسى المساكين، ولذا قال ربنا في شأن الضعفاء لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:٥٤].
يواسى الفقراء كما واسى المهاجرون الأنصار؛ قدم المهاجرون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم في بلادهم بيوت، وكانت لهم في بلادهم أموال ودور، لكنهم تركوا ذلك كله مع محبة شديدة له، فتركوا الديار وفارقوا البلاد مع حبهم الشديد لديارهم وبلادهم، دل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خارج من مكة، وهو واقف على جبل الحزورة ينظر إليها والدمع يذرف من عينيه على وجهه وخديه، يقول لها:(والله يا مكة! إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت) ثم يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لكنهم وجدوا من يواسيهم، وجودوا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبونهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، بل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:٩] حتى قال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن! انظر إلى أي زوجتي هاتين أعجبتك حتى أنزل لك عنها فتتزوجها! وقال: يا عبد الرحمن! إني رجل كثير المال فهلم أقسم مالي بيني وبينك نصفين! صور من المواساة افتقدها أهل الإسلام في هذه الأزمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأشعريين وهم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:(إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم، جمع كل منهم ما عنده من طعام، ثم طرحوه، ثم اقتسموه بينهم بالسوية فأنا منهم وهم مني)(إذا أرملوا في الغزو) أي: قلَّ زادهم، وقلَّ طعامهم، (جمعوا ما عندهم من طعام)، فكل يأتي بالقليل أو بالكثير الذي عنده، صاحب القليل يأتي بقليله، وصاحب الكثير يأتي بكثيره، ثم يطرحونه جميعاً في مكان واحد، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فهم مني وأنا منهم).
هذه صور من صور المواساة يجب أن تتفشى فيما بيننا، ويجب أن ندفع الشح عن أنفسنا، فلنعد إلى حياتنا ما فقد من سيرة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن سير أصحابه الكرام، ألا فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.