[صور من ابتلاء الأنبياء]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: لقد سمعتم -أيها الإخوة- طرفاً مما ابتلي به من كان قبلنا، ولسنا جميعاً ببدع من الخلق، بل نحن خلق كسائر خلق الله تبارك وتعالى، نبتلى كالذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى، وتتنوع علينا الخطوب وتتنوع علينا الابتلاءات كما تنوعت على من كان قبلنا، وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣] وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١]، إن المستقرئ للتاريخ عموماً وكذا المستقرئ لكتاب الله يرى ما حل بالذين كانوا من قبلنا، وهذا عرض سريع جداً للإصابات والابتلاءات التي ابتلي بها من كانوا قبلنا: فأبونا آدم عليه السلام فضلاً عن طرده من الجنة يبتلى بابتلاء آخر شديد وشاق عليه أيما مشقة، يبتلى بأن يقتل ولده الطالح الشرير المفسد ولده الصالح، فتخيل إذا حل بك -يا عبد الله- هذا البلاء، إذا كان لك ولدان أحدهما صالح في غاية من الصلاح، وبار بك وتقي، والآخر شرير مفسد، فيتسلط الشرير المفسد على الصالح فيقتله، كيف سيكون الأمر؟! إن رحماً قطعت، إن دماءً سفكت، إن هموماً شربت، إن أحزاناً حلت، إن نيراناً أعدت، وإن جناناً كذلك أعدت، فماذا يصنع آدم عليه السلام أمام هذا الابتلاء الشديد المر القاسي؟ ولده الطالح يتسلط على الولد الصالح المذكر بالله ويقتله قتلة شديدة بشعة، أبوك آدم يبتلى بهذا عليه الصلاة والسلام.
كذلك نوح عليه السلام فضلاً عن تكذيب قومه له، يرمونه بالجنون! ويزداد الرمي يوماً بعد يوم، يصنع السفينة على البر فيزداد رميهم له بالجنون، يقولون: انظروا هذا الذي كان يزعم أنه نبي، فدل على جنونه عندهم أنه يصنع سفينة على البر، والسفن تصنع في البحار، وتزداد السخرية وهو يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، كيف بهم وهم يرونه يجمع قطاً وقطة، جدياً وعنزة، ديكاً ودجاجة، ويضعها على السفينة وهي على البر؟! إن السخرية منه قد ازدادت وازدادت؛ ولكن الله يعلم والبشر لا يعلمون، وابتلي فضلاً عن تلك السخرية والتكذيب بولدٍ عاق وبولد كافر، يدعوه نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:٤٢] فيقول الغبي: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣]، فيبتلى عليه السلام بموت ولده أمام عينيه على الكفر -والعياذ بالله- فموت الولد أمر مقدر على الجميع؛ لكن موته على الكفر أمر شاق على من يعلم عن الله أوامره ومن يعقل عن الله شرعه.
كذلك يبتلى بزوجة مؤذية شريرة تدل الكفار على من آمن فيسومونهم سوء العذاب.
أنتقل إلى الخليل الذي وفى، يبتلى خليل الرحمن بجبار عنيد، بحاكم ظالم مبير يقول له: أنا أحيي وأميت، ويدعي أن الإلهية له، يبتلى به فيصبر إبراهيم على البلاء ولا يجبن ولا يتراجع، بل يقول له بقوة وبصراحة وجرأة بلا مداهمة ومماراة: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨]، ثم يقول: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨]، فكلمة الحق أمام هذا الطاغية الجائر لم تعجل بأجل إبراهيم عليه السلام، ويبتلى بنار أعدها له المجرمون وأشعلوها، وهم لا يمزحون ولا يداعبون ولا يهددون، بل قذفوه فيها وهو صابر محتسب يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
يبتلى كذلك في البدن فيؤمر بالختان، وهو في الثمانين سنة ولا يتردد، فيأتي بالقدوم -آلة النجار- فيقطع من نفسه الجلدة صابراً محتسباً لأمر الله، ويبتلى في ولده: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢] فيجيب الابن البار {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:١٠٢ - ١٠٣] أي: استسلما {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:١٠٣] طرحه على وجهه وأتى بالسكين، فحينئذٍ نزل الفرج {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:١٠٤ - ١٠٧].
أنتقل إلى الكليم الكريم موسى عليه الصلاة والسلام، ابتلاء تلو ابتلاء، من الجبابرة فرعون وهامان وقارون الكذاب، ومن بني إسرائيل، وقد ذكر في الموقوفات أن قارون أعد خطة للنيل من موسى عليه السلام، فأوعز إلى امرأة بغي من البغايا بعد أن أعطاها ألفين من الدراهم أن تقذف موسى بالزنا، فبينا موسى يخطب في بني إسرائيل قام قارون قائلاً: يا نبي الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ قال: عقوبته الرجم، قال: يا كليم الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ فقال: عقوبته الرجم، ثلاثاً، قارون يؤكد ويستثبت من الفتيا، فقال للمرأة: قومي فتكلمي.
فقامت وقذفت موسى أمام الملأ بالفاحشة وهو كليم الرحمن، فقال موسى: أناشدك بالذي أنزل التوراة أهذا قد حدث؟ قالت: أما وقد ناشدتني فوالله! ما حدث هذا، ولا شيء من هذا، بل قارون أعطاني من المال كذا وكذا.
في ذلك وفي غيره أيضاً يقول تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:٦٩]، فتهم تقذف للأبرياء، وأعراض تنتهك، وهم عليها صابرون، والله ينجيهم ويبرئ ساحتهم.
أما عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، فهو الآخر يقذف من شراذم اليهود بأنه ولد زنا، وتتهم الصديقة الكريمة العفيفة المحصنة مريم عليها السلام بأنه زنى بها يوسف النجار الذي كان يدخل عليها المحراب، وهي الصديقة الكريمة التي أحصنت فرجها، فيمكن الله لعيسى شفاء المرضى بإذنه سبحانه وتعالى، من الأمراض المستعصية، يبرئ الأكمه والأبرص، بل ويحيي الموتى بإذن الله؛ ولكن يتهمونه بأنه ساحر عليه الصلاة والسلام.
أما نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فصنوف البلاء عليه تعددت، منذ ولد يتيماً تعددت وتنوعت، فنشأ يتيماً ثم ماتت أمه، فأصبح يتيم الأبوين، ثم يبدأ في رعي الغنم عليه الصلاة والسلام، ثم يعمل أجيراً عند خديجة بنت خويلد قبل تزوجها، ثم تمر به الأمور أمراً تلو أمر، فيؤذى في بلده، ويخرج منها وينظر إلى تلال مكة وجبالها وهو مهاجر والدمع ينحدر من عينيه قائلاً: والله! يا مكة! إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، ثم تتوالى عليه الابتلاءات في المدينة من يهود، ومن أهل نفاق، ويرى رؤى مزعجة لما سيحل بأمته، ثم يموت ويلقى ربه صلوات ربي وسلامه عليه، كما مات غيره من الرسل، فيبتلى المسلمون بذلك وتتنوع الابتلاءات.