وفي هذه الحياة الدنيا الكل مبتلى بالآخر، قال تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الزخرف:٣٢]، وقال سبحانه:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:٢٠]، فالكل مبتلى في هذه الحياة الدنيا، لا تكاد تنجو من ابتلاء إلا وقعت في ابتلاء آخر، مؤمناً كنت أو غير مؤمن، ورب العزة يبين لنا ذلك، يبين لنا أنه يختبرنا ويبتلينا، أحياناً إجمالاً وأحياناً صراحة في الشيء الذي أنت مقدم عليه، يقدم الحجيج على الحج في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فيقول الله لهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}[المائدة:٩٤] أي: يا من أحرمتم بالحج {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}[المائدة:٩٤]، ولما مرّ طالوت بالجنود قال لهم صراحة:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}[البقرة:٢٤٩] أي: مختبركم بنهر، وأحياناً يأتي التنبيه بالابتلاء إجمالاً:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٢ - ٣]، فيكون الشخص في فتنة كفتنة الفقر -والعياذ بالله من الفقر- فيكافح ويكافح إلى أن ينجو من فتنة الفقر، فيبتلى بفتنة أخرى في ولده، يأتيه ولد شقي غوي يكدر عليه حياته، فيسلم من فتنة الولد فيبتلى بفتنة في الزوجة، فيسلم من فتنة الزوجة فيبتلى بحادث في طريقه يدمر عليه سيارته، ويكون سبباً في خراب بيته، وفي تحطيم جسمه وإصابته، يعافى من ذلك، فيبتلى بجار من جيران السوء ينكد عليه معيشته، فيبتلى بالسراء ويبتلى بالغنى، وهذا من شر أنواع البلاء؛ لأنها تطغي ولأنها تنسي، كما قال سبحانه:{كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}[العلق:٦ - ٧]، وكما قال سبحانه:{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا}[الإسراء:٨٣]، فيبدأ بالطغيان واحتقار العباد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:٣٥]، فهذه الحياة الدنيا كلها ابتلاء واختبار، ولا تظن أبداً أنك ما دمت معافى في البدن، معافى في المال، وسيماً في منظرك، في أبهة من الأبهات، لك منصب، ولك جاه، لا تظن أن هذا إكرام من الله سبحانه وتعالى لك، فلو كان هذا إكراماً من الله لك لما قال سليمان النبي الكريم الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وجاءه عرش ملكة سبأ واستقر عنده قبل أن يرتد إليه طرفه:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:٤٠]، تبتلى بالفقر ليعلم الله هل تمتد يدك إلى الحرام أم تقنع بالحلال؟ تبتلى بالصحة والعافية ليُعلم هل تواسي أهل البلاء أم لا؟ وليُعلم كذلك هل تستعمل صحتك في طاعة الله ومرضاته أم أنك من الذين قال الله فيهم:{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة:٢٠٥ - ٢٠٦]؟ يبتلي الله العباد بصنوف من الابتلاءات، تكون نائماً وقرير العين في البيت وإذا بطارق يطرق عليك الباب -ونعوذ بالله من طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان- يقول لك: انزل؛ ابنك فُقئت عينه! انزل؛ أبوك أصيب بحادث! اخرج؛ أمك قد ماتت! ابتلاء من حيث لا تحتسب، كل هذا اختبار وابتلاء من الله سبحانه، فمن الناس من يعرف الحكمة من وراء ذلك فيقول كما قال سبحانه: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧]، وآخرون يقولون متحسرين متأسفين:{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران:١٥٦].
فلابد -معشر الإخوة- أن نفقه الحكمة من خلقنا، والله! ليست كي نأكل ونشرب، ونتلذذ بالمطاعم وبالنساء على الفرش، ثم ماذا بعد ذلك ما الذي ينتظرنا؟ ينتظرنا قبر موحش مظلم -والعياذ بالله- نسأل الله أن يجعله علينا جميعاً روضة من رياض الجنان.