تقدم الجانب الأول من موضوع الكتب الثلاثة -"الأحكام" و"البيان" و"البغية"- وهو علم العلل أما الجانب الثاني لهذه الكتب فهو تصنيفها باعتبارها كتب أحكام، وهذا يقتضي أن نلقي نظرة موجزة عن الكتب الحديثية التي صنفت في الأحكام.
اهتم المحدثون في فترات غير قليلة بذكر سند الحديث، وهم إذا ذكروه قد تفصوا من عهدته، لشيوع المعرفة بالرجال، جرحهم وتعديلهم، سابقهم ولاحقهم، ولمعرفة من سمع من هذا الراوي، ومن لم يسمع منه، ومن يدلس ومن لا يدلس، ومن-روي المناكر، ومن يتحاشاها، من له علم بشيوخه عامة، وبرواة عصره، ومن هو مقصور العلم بمعرفة حال شيوخه الذين أخذ عنهم، وبمن اختلط في فترة من عمره، وبمن لم يختلط، كما كان لهم علم ومعرفة بعلل الأخبار، وناسخها من منسوخها، ومتقدمها من لاحقها.
وكانت دائرة العلوم الإسلامية محصورة فى الكتاب والسنة، وثم اتسعت هذه الدائرة لتتفرع إلى علوم أخرى؛ من فقه وأصول وحديث وتفسير وكلام، وأصبح كل علم منها قائما بذاته، له أسسه وقواعده التي تضبط مساره وتحدد اتجاهه، فغلبت إحدى هذه الفروع المعرفية على كل طائفة من العلماء، وشاع التخصص فى الدراسة والتحصيل، وأصبح أهل كل تخصص لا ينازعون أهل التخصص الآخر، لكن التداخل بين العلوم الإسلامية يفرض احتياج كل طائفة إلى الأخرى، وكتاب الله هو أصل هذه العلوم وإليه مرجعها، لكنه أجمل في مواطن كثيرة، وترك للسنة التفصيل فيها، ولم يعرج على أحكام في مجالات أخرى باعتبار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيتكفل ببيانها ... من هنا كانت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطب الرحى للعلوم الإسلامية، فلا يستعاض عنها بشيء، ولا يقوم مقامها علم من العلوم.
ولما كانت جميع أفعال الإنسان وأقواله وتصرفاته محكومة بشرع الله احتاج الناس لعرفة هذا الشرع، ولا مجال لمعرفته إلا بالرجوع إلى ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال والتقريرات التي تبين ذلك، ثم إن مجال اتساع