وهذا هو السرّ فى الإبقاء على أهل الكتاب حين يقعون ليد المسلمين، وصيانة دمهم من القتل، وقبول الدّية منهم.. فإن هذا التدبير إنما غايته هو وضع أهل الكتاب فى هذا الامتحان، وتلك التجربة.. ولقد أثمر هذا الامتحان ونجحت تلك التجربة، فإنه ما من أحد من أهل الكتاب، دخل فى هذا الامتحان وعاش تلك التجربة، وأخذ مكانه مع المسلمين على هذا الوضع، حتى وجد الفرصة سانحة، والوقت متسعا، للبحث والنظر فى معتقده، والمعتقد الذي يدعى إليه.. وكان من هذا أن دخل فى الإسلام، وآمن به عن اختيار واقتناع..
ومن بقي على دينه من أهل الكتاب- وهم قلة شاذة- فقد كانت آفة ذلك إلى تعصب أعمى، وانقياد لهوى جامح، لا يمسكه عقل، ولا يردّه رأى! فلم تكن الجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب ضربا من التحكم، ولا نزعة من نزعات القهر والتسلط، وإنما هى- كما رأينا- دعوة حكيمة من دعوات الإسلام إلى الإيمان بالله، وأسلوب من أساليبه المحكمة، فى فتح الأبصار المغلقة، إلى النور، ولفت العقول الشاردة، إلى الهدى، وإيقاظ القلوب الغافية، لاستقبال آيات الله وكلماته..
ولو كان من شأن الإسلام التسلط والقهر، والعدوان والبغي، لأخذ أهل الكتاب الذين وقعوا ليده، ونزلوا على حكمه، بما أخذ به الكافرين والمشركين، ولما قبل منهم إلّا الإيمان أو القتل، ولما استبقاهم ابتغاء إصلاحهم، وشفائهم ممّا ألمّ بهم، من زيغ فى العقيدة، وضلال فى الدين..
فالجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب، هى دواء لداء، واستطباب لعلّة، وعملية جراحيّة لاستئصال مرض قاتل.. وإنه لا بأس من أن يكون الدواء مرّا، إذا أنمر ثمرته فى شفاء الداء.