تلك الظاهرة- ظاهرة الميلاد- التي يرى فيها البدوىّ وجه الحياة مطلّا عليه، فى صورة وليد أو وليدة له من بين هذا الموات العريض الذي يملأكل دنياه، وإذا هذه الحياة البازغة عنده، محملة بألوان الضرّ والبلاء، ملففة فى أكفان الموت الرهيب! وفى «الرثاء» الذي نجده فى مخلفات الشعر الجاهلىّ، ما يشهد لما فى الطبيعة العربية الجاهلية من تعلق بالحياة والأحياء، وخاصة حياة الأبناء، وفلذات الأكباد.. ففى تلك المقطعات من الشعر، نشمّ ريح أكباد تحترق، ونجد مسّ أنفاس تلتهب، ونحس أنين زفرات لا تكاد تنقطع، وتساقط عبرات لا تكاد ترقأ.
فعلى الذين يتخذون من هذا الفعل الذي كان يفعله بعض الأعراب بأبنائهم- شاهدا على وحشيّة العرب، وفساد طبيعتهم، وانتكاس البشرية فيهم- عليهم أن يصححوا نظرتهم إليهم، وأن يردّوا هذه الظاهرة إلى أصلها الذي جاءت منه، وسيرون من هذا، أن قتل بعض الأعراب لأبنائهم، كان- حسب تقديرهم- حماية لهم من الموت البطيء، وفرارا بهم من ملاقاة تلك الحياة القاسية المهلكة.. ولأمر ما تأكل بعض الحيوانات أبناءها..
كما تفعل القطط مثلا، حين ترى أولادها فى معرض الهلاك، من عدوّ يهجم عليها، وينتزعها منها.. إنها حينئذ لا تجد مكانا أمينا تغيبهن فيه عن عين عدوّها إلا بطنها الذي خرجن منه منذ قليل! أمّا وأد البنات، فهو فرع من هذا الأصل، وهو قتل الأبناء خشية الفقر.. وأنه إذا كان بعض الآباء يمسك البنين، ويئد البنات، فلأن البنات أقلّ احتمالا من الأبناء، ولأن فى تعرضهن لهذه الحياة القاسية ما قد يمسّ شرفهن. ويلحق العار بهن وبآبائهن! ولهذا كان وأد البنات فاشيا أكثر من قتل الأبناء!