والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان، وإما في العقل كباب تحريم الخمر، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولا إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يشمل ذلك أيضا بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر.
ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى هاهنا وجوب إظهار البراءة من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضا وإن كانوا أقارب فقال: ما كانَ لِلنَّبِيِّ ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ١١٦] فطلب غفرانهم جار مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى
روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية- فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآيتان.
وقيل عن ابن عباس: لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى الله عليه وسلم عهدا أي آخرهما موتا؟ فقيل: أمك آمنة. فزار صلى الله عليه وسلم قبرها ثم قام باكيا فقال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن