في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطاب.
وقيل: هو قوله «أما بعد» وهو أوّل من تكلم به. وقيل: هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلا وَهَلْ أَتاكَ يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة أقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلا منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة.
القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود- وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه- فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك «ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ» مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلا نظرا إلى أصله، وثناه ثانيا بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع الضمائر في قوله إِذْ تَسَوَّرُوا إِذْ دَخَلُوا فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية وَلا تُشْطِطْ وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين أخبروا عن وقوع الخصومة مجملا شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيرا إلى الآخر إِنَّ هذا وقوله أَخِي أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في