للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحتمل أن يكون قوله لِلسَّائِلِينَ متعلقا بقوله وَقَدَّرَ أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء. وقيل: إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء، وقد مر في أول «البقرة» . قوله وَهِيَ دُخانٌ ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات. وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور. واعلم أن ظاهر قوله ثُمَّ اسْتَوى يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر. وفي الآثار، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ [يوسف: ٧٧] أي إن يكن يسرق.

وزيف بأن الجمع بين «ثم» الدال على التأخر وبين إضمار «كان» الدال على التقدم جمع بين النقيضين. ويمكن أن يجاب بأن «ثم» هاهنا لترتيب الأخبار. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: ٥٩] فإن إيجاد الموجود محال. فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا. قلت: لو لم يكن قوله تعالى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها إلى قوله أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لكان هذا التأويل له وجه. وقال بعض الصوفية: خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها، وبارك فيها بالحواس الخمسة، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطوارا سبعة كقوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: ١٥] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١] ثم الحكمة

«ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه»

ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام

<<  <  ج: ص:  >  >>