وتفصيلا بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريرا له في الأذهان. ومنها ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»
ونظيره
قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «١»
ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول: «فإنه» أو «فإني» فإنه يدل على غاية السخط والخذلان. ومنها وضع المظهر مقام المضمر حيث قال: عَنِ الْعالَمِينَ.
ولم يقل «عنه» لأنه تعالى إذا كان غنيا عن كل العالمين فلأن يكون غنيا عن طاعة ذلك الواحد أولى. ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا: إن الحج إلى مكة غير واجب.
وعن الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة. المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين- فخطبهم وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا. فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه. فنزلت وَمَنْ كَفَرَ.
ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج
قوله صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة»
وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه»
أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره. وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت. وعن عمر: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون.
ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قال المفسرون: وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين، وإنكار أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله. ومحل تَبْغُونَها عِوَجاً أي اعوجاجا نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين
(١) رواه النسائي في كتاب الصلاة باب ٨. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٩. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٧٧. أحمد في مسنده (٥/ ٣٤٦) .