فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة موَدِّع فأوصنا، قال: "أوصِيكُمْ بتَقوَى اللهِ [عز وجل]، والسَّمع والطَّاعَةِ
ــ
ثم كان إذا خطب -صلى الله عليه وسلم- وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم وطلبت بلاغة الخطبة لأنها قرب إلى قبول القلوب واستجلابها إذ البلاغة هنا البلاغة في التوصيل إلى إفهام المعاني المقصودة وإدخالها قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يطيل خطبته بل يبلغ ويوجز. قوله:(فقلنا يا رسول الله الخ) كأن وجه فهم ذلك مزيد مبالغته -صلى الله عليه وسلم- في التخويف والتحذير على خلاف ما كانوا يألفون منه قبل فظنوا أن ذلك لقرب وفاته ومفارقته لهم فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل وفيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد (عليها) في بعض الأحوال لأنهم إنما فهموا توديعه بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة كما تقرر واحتمال أنه أشار إلى توديعهم نظير ما وقع في حجة الوداع ففهموا ما سأله منه بعيد بدليل قوله (قولهم كأنها). قوله:(فأوصنا) أي وصية جامعة كافية فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية تنفعهم ويتمسك بها بعده ويكون فيها كفاية للمتمسك بها وسعادة له في الدارين ويؤخذ منه أنه ينبغي لتلامذة العالم أن يسأله في مزيد وعظهم وتخويفهم ونصحهم وفيه اغتنام أوقات أهل الدين والخير قبل فراقهم. قوله:(أوصيكم بتقوى الله) جمع في هذا اللفظ كل ما يحتاج إليه من أمور الآخرة لما مر أن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك والوصية بالتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} وتقدم الكلام على معنى التقوى وأصل اشتقاقها في الحديث الذي قبل هذا. قوله:(والسمع والطاعة) معطوف على التقوى من عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام بشأنه ولذا جمع بين السمع والطاعة تأكيداً لمزيد العناية بهذا المقام ويصح أن يكون عطف مغاير من حيث إن أظهر مقاصد التقوى انتظام الأمور