للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثاني أيضا أن الحاكم إذا حكم بَعدَ نظره واجتهاده فهو منشئ للحكم، فكان حكمه كحكم الله تعالى في الواقعة ابتداءً، والمفْتِي إنما هو مُخْبِرٌ عن الله تعالى بالحكم، فيثبت مقتضاه إذا وافق أنْ كان خبرُه صِدْقا، وإلَّا فلا، وكل واحد من المجتهدين حينئذ، أعني قبل الحكم - يقوُل: خَبَري هُوَ الصِّدْقُ، والآخَرُ يقُوُل كذلك. ثم إذا كان الامر هكذا، يصير حكْمُ الحاكم كالحكم من الله في تلك القضية المعَيَّنة بخصوص، ويبقى ما عدا تلك الصورة كأنه ورَد من الله تعالى فيها حكم عام، فيتعَارض العامُّ والخاصُّ، فَيُخَصَّصُ ذلك العامُّ بذلك الخاصِ جمْعاً بيْن الدليلين.

ومثال هذا مسألة تعليق الطلاق قبل المِلْكِ، قال مالك بلزومه، وقال الشافعي: لا يلزم، فإذا حكم حاكمٌ في تلك القضية بأنه غير لازم وبقيت العِصْمةُ ثابتة وافق مالكٌ االشافعي في أن هذه العصمة ثابتة ولا طلاق في تلك الصورة، وما عدا تلك الصورة يقول مالك فيها: إن الطلاق يلزم، واللهُ سبحانه أعلم، وهو الموفّق للصواب. (٥)


(٥) عبارة القرافي رحمه الله كما سبق في أول هذا الفرق هي قوله:
إعلم ان حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف، ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتواه بعْدَ الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء.
ثم مثل لذلك بأمثلة وقال: فمنِ لا يرى وقف المشاع، إذا حكم حاكم بصحة وقفه، ثم رفعت الواقعة لمن كان يفتي ببطلانه، نفَّذه وأمضاه، ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي ببطلانه، وكذلك إذا قال (لامرأة): إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجَها وحكم حاكم بصحة هذا النكاح، فالذي كان يرى لزوم الطلاق له، ينفذ هذا النكاح، ولا يحل له بعد ذلك أن يفتي بالطلاق، هذا هو مذهب الجمهور، وهو مذهب مالك، ولذلك وقع له في كتاب الزكاة وغيره أن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا يُرَد ولا ينقضُ.
وعلق الفقيه ابن الشاط هنا على هذا الكلام فقال: "لقائل أن يقول: لا ينفذه ولا يمضيه، ولكنه لا يَرُذُهُ ولا ينقضه (اي حكم الحاكم بوقف المشاع)، وفَرْق بين كونه ينفذه ويمضيه، وكونه لا يَرُده ولا ينقضه" اهـ كلام ابن الشاط رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>