وقد جرتْ عادة كثير من علمائنا رحمهم الله أن يختموا مؤلفاتهم بكتاب أو بابٍ يُسَمونه كتابَ الجامع، (أي الجامع لمسائل متفرقة من أبواب وموضوعات مختلفة). ومن ذلك كتاب الجامع في خِتام موطأ الإِمام مالك رضي الله عنه وعن سائر الأئمة والعلماء الأعلام، والذي بدأه بباب الدعاء للمدينة وأهلها. قال هنا شارح الموطأ الشيخ العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني من أهل مصر وعلمائها الأجلاء في القرن الثاني عشر الهجرى، قال رحمه الله، نقلا عن الحافظ أبي بكر ابن العربي المعافرى رحمه الله في شرحه القَبَس على الموطأ: هذا كتاب اخترعه مالك في التصنيف لفائدتين: إحداهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلِّق بالأحكام التي صنَّفها أبْوابا، ورتبّهَا أنْواعاً. الثانية أنه لما لحَظ الشريعة وأنواعها، ورآها مقسَّمة إلى أمر ونهيْ، وإلى عبادة ومعاملة، وإلي جنايات وعادات، نظَمها أسلاكا، وربَط كل نوع بجنسه، وشَذَّتْ عنه من الشريعة معانٍ منفردة، لم يتفق نظمها في سلك واحدٍ، لأنها متغايوة المعانى، ولا أمكن أن يجعل لكل واحد منها بابا لصغرها، ولا أراد هو أن يطيل القول فيما يمكن إطالةُ القول فيها، فجعلها أشتاتا، وسمَّى نظامها كتاب الجامع، فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبلُ به عالمين في هذه الأبواب كلها، ثمَّ بدأ في هذا الكتاب بالقول في المدينة، لأنها أصل الإيمان ومعْدن الدين، ومُستقَرُّ النبوة. وقال الشيخ العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشْدٍ المالكي القرطبي المتوفى سنة ٥٢٠ هـ في خِتام الجزء الثالث في كتابه الشهير: "المقدِّمات الممهِّدات ... " بعدما تحدث عن مضمون هذا الكتاب ومحتواه من بيان أسس العقيدة، وأحكام الشريعة، قال رحمه الله: "رأيت أن أختمه بجزء جامع يحتوى على ما تَهُم معرفتُه من العلم بنَسَبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأولاده، وعيون سِيَرهِ وأخباره من حين مولده إلى حين وفاته، وعلى جُمَلٍ ممَّا يَحق معْرفتُهُ مما يجب على الانسان في خاصته أو يحْرُمُ عليه أو يستحَبُّ له أو يُكره له أو يباح له في مطعمه ومشربه وملبسه وجميع شأنه، وعلى بيان فضل مكة والمدينة، وبيان فضل مالكٍ إمام دار الهجرة، ومقدار مرتبته في العلم، والله الموفق للصواب، لا ربٌّ غيرُه، ولا معبودَ سواه". وقال الفقيه العلامة أبو القاسم محمد بن أحمد بن جُزَىّ الكلْبي الغرناطي المالكي، المتوفى شهيدا في واقعة طريف سنة ٧٤١ هـ عن عمُر يناهز تسعا وأربعين سنة رحمه الله، في كتابه الشهير: "القوانين الفقهية": "كتاب الجامع". "وهو الضابط لما شذَّ عن الكتب المتقدمة (أي المشتمل على مسائل منفردة ومتنوعة بالنسبة لما ورد في هذا الكتاب من أبواب ومسائل أخرى)، وهذا الكتاب الجامع يشتمل على عِلمٍ وعَمَلٍ". =