للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالثة أن الشرع يحتاط في الحروج من الحِرمة إلى الإباحة أكثر مما يحتاط في الخروج من الاباحة إلى الحِرمة، لأن التحريم يعتمد المفاسد، فينبغى الاحتياط له، فلا يُقْدَمُ على محل فيه المفسدة إلا بسبب قوي، فلهذه القاعدة أوقعْنا الطلاق بالكنايات وإن بَعُدَتْ، حتى أوقعه مالك بجميع الألفاظ إذا قصد بها الطلاق، ولم يجوز النكاح بكل لفظ، بل بما فيه قربٌ من مقصود النكاح، لأنه خروج من الحِرمة إلى الحل، وجوزْنا البيع بجميع الصِّيغ والأفعال الدالة على الرضا بنقل الملك، لأن الاصل في السِلَع الاباحة حتى تُملك، بخلاف النساء، الأصل فيهنَّ التحريم حتى يُعقَدَ عليهن بِمِلْك أو نكاح.

قلت: القاعدة الثالثة، قد قيدْنا عليها في موضعها ما يُضْعفها بالاعتماد على القاعدتين: الأولى والثانية. (٦٨). ثم لو سلمنا صحة الثالثة فما يتحقق بها فرقٌ، لأن الملك إذا مُلك فقد صَار الانتفاع به للغير مُحَرِّما، وانتقالُهُ للغَير بِبَيْع يُصَيِّره له مباحا، فكان ينبغي على هذه القاعدة أن محتاط الشرعُ لها (٦٩) حتي لا تجوز المعاطاة ولا يجوزَ البيع إلا بألفاظ خاصة، وليس كذلك.

القاعدة الرابعة عشرة (٧٠)

لِمَ كان المعْسِر بالدَّين يُنظَرُ، والمعْسِرُ بنفقات الزوجات لا يُنظر؟ ، أقول:

أوّلًا، حكم مالك والشافعي بالتطليق على المعْسِر بنفقة الزوجة، خلافا لأي حنيفة، فإنه لا يطلق عليه بالإعسار، ورأى أنه أولى وأحْرى من صاحب الدَّيْن، لأن بَقاء الزوجية مطلوب لصاحب الشرع، وأيضا فقياسه على النفقة في الزمان الماضي بأنَّه لا يطلق بها إجُماعا، وأيضا فإن عَجُرَهُ عن نفقة أمّ ولده لا يُوجب بيعَها وخروجُها عن ملكه، فكذلك الزوجة.


(٦٨) أنظر القاعدة الثانية والعشرين من القواعد الأصولية. جـ ١، ص ١٨٨.
(٦٩) لعل استعمال كلمة الفقه والفقهاء هنا أنسب من كلمة الشرع، أوْ يُقال: فاحتَاط الشرعُ في ذلك، فليتأمل ذلك، والله أعلم.
(٧٠) هي موضوع الفرق الثامن والخمسين والمائة بين قاعدة المعسِر بالدَّين يُنظَرُ وبين قاعدة المعسر بنفقات الزوجات لا يُنْظَرُ. جـ ٣. ص ١٤٥. ولم يعلق عليه الفقيه ابن الشاط بشيء رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>