للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب عن الأول أنّا لم نُلزمه النفقةَ مع الإِعسار وهو نظيرُ الإِلزام بالدَّيْن، وإنما أمَرْنا بِدفع ضرر يقدِر عليه، وهو إرسالُها في لمن ينفق عليها، وهو الجواب عن النفقة في الزمَانِ الماضي.

وأما الثالث فَرَفعُ الضرر عن أمّ الولد لَهُ طريق آخَرُ، وهو تزْويجُها، وهذا الطريق متعذر هنا، فتَعيّن الطلاق ولم يتعيَّن بيع أم الولد. ثم يتأبّد الطلاق بالإِعسار بما جاء في البخاري أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصدقات مَا تَرَك غِنى، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابْدَأ بمن تَعُولُ. (٧١). المرأة تقول: إمّا أن تُطعمني وإمّا أن تطلقتى، ويقول العَبْدُ: أطْعِمتى واستعمِلني، ويقُول الولد: إلَى من تَدَعُني". وأيضا يدل عليه قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (٧٢).

قلت: كلام شهاب الدين رحمه الله في هذه القاعدة هو هذا، وأولُ ذكر القاعدة والفرقِ يُشعِرُ أن النفقة لم تقع فيها إنظار، والدَّينُ وقعَ فيه. وَبسْطُ الكلام في القاعدة يُحقِق أن الإِنظار وقع في النفقة عند المعْسِرِ كما وقع في الدَّين، (٧٣)


(٧١) في رواية أخرى عن حكيم بن حزام: أفضلُ الصدقة ما كان عن ظَهر غِنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول" (أيْ إبدأ. بِمَنْ وجب عليك عوْلُهم ونفقتهم من زوجة وأولاد وآباء، ثم الأقربِ فالأقرب).
(٧٢) سورة البقرة الآية ٢٢٩، وأولها قول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ}.
(٧٣) وأصل مشروعية الإِنظار في الدَّين، والترغيب فيه لحين اليُسْر عند المدين، قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. سورة البقرة. الآية ٢٨. فإنظار المعسِر بالدَّيْن، وإمْهَالُهُ إلى حِينِ اليُسْر أمر مندوب إليه ومرغبٌ فيه، والتَّصدق به على المدين، والسماحُ له فيه أفضلُ وأكمل لمن تيَسَّرَ له ذلك وأمكن، كما هو مستفاد من هذه الآية الكريمة، ومن كثير من الأحاديث النبوية في هذا الموضوع، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أنظَر معْسِرًا أو وضعَ عنه أظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظِل إلا ظله".
أما الإِعسار بالنفقة على الزوجة، وما قد يترتب عنه منْ أحْكام من الطلاق أو التطليق من طرف القاضى فقد تناولتْه كتب الفقه بصفة عامة، كتب فقه القضاء بصفة خاصة، واعتبروا الطلاق أو التطليق الناشئ عنه طلاقا رجعيا كما هو الشأن في طلاق المُولي. ومن ذلك ما جاء في مختصر الشيخ خليل ابن إسحاق المالكي رحمه الله وهو يتحدث عن حالات الطلاق البائن، فقال عاطفا على تلك الحالات ومستثنيا منها: "وطلاقِ حُكِم به، إلا لإِيلاء وعُسْر بنفقة".
قال ابن جُزَيّ رحمه الله في قوانينه الفقهية: "لا يؤثر العجز عن نفَقة الزَّمَان الماضي، بل ذلك دَين فيَ ذمته".

<<  <  ج: ص:  >  >>