للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنا لمّا عاهدناهم حسُن بنا أن لا نضيعهم، وأن نلطُف بهم، وأن نوقع معهم الأخلاق الجميلة لا خوفا منهم ولا تعظيما لهم، ثم نستحضر مع ذلك في قلوبنا عداوتهم لنا ولنبينا حتى لا نودهم ضرورةً، كما اتفق لأبي الوليد الطرطوشي حيث رأى وزيرا من الرهبان للخليفة قد أجلسه بإزائه، فقال رضي الله عنه:

يا أيها الملك الذي جودُه ... يطلبه القاصد والراغبُ

إن الذي شَرُفْتَ من أجله ... يزعُمُ هذا أنه كاذبُ

فاشتد غضبُ الخليفة عند سماع الأبيات، وأمَر بالراهب فسحب وضُرب وقُتل، وأقبل على الشيخ أبي الوليد أكرمه وعظمه بعد عزمه على أذيته. وهذا الخير بسبب استحضاره بغض الراهب للنبي عليه الصلاة والسلام (٩).

ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل الذمة: أعينوهم ولا تظلموهم، فظهر أن الاحسان إليهم لا يخالف بغضهم، وأن ودَّهمْ غيْرُ بِرِّهِم.


(٩) وعبارة الاممام القرافي رحمه الله في اول هذا الفرق كما يلي:
إعْلَمْ أن الله تعالى منعَ من التوددِ لأهل الذمة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} الآية الأولى من سورة الممتحنة. فمنع الموالاة والتودد. وقال في الآية الأخرى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وقال في حق الفريق الآخر: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الممتحنة. الآية ٩. وقال صلى الله عليه وسلم: "استَوْصُوا بأهل الذمَّة خيْرا"، فلابد من الجمع بين هذه النصوص، وإن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وإن التودد والموالاة منهي عنهما، والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق.
وسِرُّ الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوتا علينا لهم، لانهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوءٍ أو غِيبَة في عرض أحدهم، أو نوع من انواع الإذاية، أوْ أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة الإِسلام.
وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلدنا يقصدونه وجبَ علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموتَ دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة.
فعقد يؤدي إلى تلف النفوس والأموال، صونا لمقتضاه عن الضياع، إنه لعظيم.
وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر.

<<  <  ج: ص:  >  >>