للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم المِلْك، الظاهرُ أنه من خطاب التكليف، فإنه، إباحةٌ خاصةٌ في تصرُّفات خاصة، وأخذُ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص، (١٢٩) وخطاب الوضع هو نَصْبُ الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية.


(١٢٩) عبارة القراقي هنا هي قوله: "فإن قلت: إذا اتضح حَدُّ الملك، فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو الأحكام الخمسة؟ قلت: الذي يظهر لي أنه من أحد الاحكام، وهو إباحةٌ خاصة في تصرفات خاصة، وأخْذُ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص، كما تقررت قواعدُ المعاوضات في الشريعة، وشروطها وأركانها، وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق، فلذلك قلنا: إنه معنى شرعي مقدر، نريد أنه متعَلّق الإباحة، والتعلُّق عَدَمي من باب النِّسَبِ والاضافات التي لا وجود لها في الأعيان بل في الأذهان، فهي أمرٌ يفرضه العقل كسائر النِسَب والاضافات كالأبوة والبنوة، والتقدم والتأخر.
ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنغول: إن المِلك إباحة شرعيةٌ في عيْن أو منفعة، تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أوْ أخْذِ العوض عنهما من حيث هي كذلك، ويستقيم الحدُّ بهذا اللفظ أيضا، ويكون المِلْك من خطاب التكليف، لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة، وخطاب الوضع هو نصْبُ الأسباب والشروطِ والموانع والتقادير الشرعية، وليس هذا منها، بل هو إباحة خاصة، ومنهم من قال: إنه من خطاب الوضع وهو بعيد ... "
ثم قال القرافي: فإن قلت: المِلك سببُ الانتفاع فيكون سببا، فيكون من خطاب الوضع، قلت: وكذلك كل حكم شرعِي سببٌ لمسبِّباتٍ تترتب عليه من مثوبات وتعزيراتٍ ومواخَذَات وكفارات وغيرها، وليس المراد بخطاب الوضع مطلقَ الترتب، بل نقول: الزوال سبب لوجوب الظهر، ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سببَ الثواب، وترْكُه سببَ العقابِ، ووجوبُهُ سببٌ لتقديمه على غيْره من المندوبات مما ترتب على الوجوب مع أنَّهُ لا يسمَّى سببا، ولا يقال إنه من خطاب الوضع".
وقد عقبَ الشيخ ابن الشاط على ما جاء هنا عند القرافي فقال:
ما قاله من أنه إباحة، ليس بصحيح، فإن الإباحة هي حكم الله تعالى، والحكم عند أهْل الأصول خطاب الله تعالى، وخطابُهُ كلامُه، فكيف يكون المِلك الذي هو صفة للمالك على ما ارتضيتُهُ، أو صفةٌ للمملوك على ما ارتضاه، هو كلام الله تعالى، هذا ما لا يصح بوجه أصلا. فالصحيح أن مُسَبَّبَ الاباحة هو التمكن، والاباحة هي التمكين، والله أعلم.
ثم قال في قول القرافي: "وليس المراد بخطاب الوضع مطلقَ الترتب الي آخر ما قاله المازري في كتاب التلقين": ما قالَه في ذلك صحيح، وكذلك ما قاله عن المازري، ماعدا قولَه إن المِلك هو التصرف فإنه غير صحيح على ما قرر المؤلف قبل هذا، انتهى الكلام على هذا التحقيق الطويل، النفيس الممتع بين هذين العالمين الجليلين، فلذلك نقلت كلامهما بأتَمِّهِ في هذا الموضوع، لماله من بيان وتوضيح من طرفيهما ومن جانيهما في هذا الفرق الدقيق. فرحمهما الله وجزاهما خيرا عن العلم والعلماء والمسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>