للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه، (١٨٠) لِقوله عليه السلام: "إعقِلْها وتوَكلْ" (١٨١)، ولأنه تعالى أمر بالتوكل والحذَر ممّا ينبغي أن يُحْذَرَ، وكوصية يعقوب لبَنِيه حيث قال: "لا تَدخلوا مِن باب واحد"، (١٨٢) ثم قال: "عليه توكلت"، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيدُ المتوكلين، وكانَ يطوف على القبائل ويقول: "مَن يعصمني حتى أُبلِّغَ رسالاتِ ربي"؟ ، وكان


(١٨٠) عبارة القرافي: "وقال آخَرون: لا ملازمة بين التوكل وترك الاسباب، ولا هو هو، وهذا هو الصحيح، لأن التوكل هو اعماد القلب على الله تعالى فيما يجلبه من خير ويدفعه من ضر. قال المحققون: والأحسنُ ملابسة الاسباب مع التوكل، للمنقول والمعقول.
أما المنقول فقوله تعالى، خطابا للمومنين: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (سورة الأنفال، الآية ٦٠)، فأمر بالاستعداد مع الامر بالتوكل في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. وقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (سورة فاطر، الآية ٦)، أي تحرَّزوا منه، فقد أمر الحقُ تعالى باكتساب التحرز من الشيطان كما يُتحرز من الكفار، وأمر تعالى بملابسة أسباب الاحتياط والحذَر من الكفار في غير ما موضح من كتابه العزيز. وأما المعقول فهو أن الملك العظيم إذا كانت له جماعة ولهم عوائد في أيام لا يُحْسِنُ إلا فيها، أو أبواب لا يخرج إلا ففيها، أو أمكنةٍ لا يَدفع إلا فيها، فالأدبُ معه ألا يُطلَب منه فعل إلا حيث عوَّدَهَ، وألا يخالِف عوائدَه بل يجري عليها، والله تعالى مَلِكُ الملوك وأعظمُ العظماء، بل أعظم من ذلك، رتَّب مُلْكَه على عوائدَ أرادها، وأسبابِ قدَّرها، ورَبط بها آثار قدرته، ولو شاء، لم يربطها، فجعل الريَّ بالشرب، والشِّبَعَ بالأكل، والاحتراق بالنار، والحياةَ بالتنفس في الهواء، فمن طلب من الله تعالى خصوصَ هذه الآثار بدون أسبابها فقد أسآء الادب مع الله سبحانه وتعالى، بل يَلتمس فضلَهُ في عوائده ... الخ. ". فالله تعالى يُحدِث هذه الاشياء والمسببَّات، ويوجدها عند وجود أسبابِها لا بِها.
(١٨١) عن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أعْقِلُها (أي الناقةَ) وأتوكلُ أوْ أُطْلِقُها وأتوكلُ؟ ، قال: إعْقِلها وتوكَّلْ". رواه الامام الترمذي، آخِرَ كتابه.
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أنكم كنتُم توَكَّلون على الله حق توكله لَرُزقتم كما تُرزَق الطير، تغدو خِماصا وتروح بِطاناً". رواه الائمة احمد بن حنبل، والحاكم، والترمذي رحمهم الله.
والخِماص بكسر الخاء جمع خَميص وهو الجائع، ضامِرُ البطن من الجوع، والبطان كذلك بكسر الباء على وزن فِعال، جمع بَطين هو الشبعان كبير البطن. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تغدو وتروح" (أي تُصْبحُ وتمسْي، وتتحرك من أعشاشها بين الصباح والعشي)، إشارةٌ إلى أنها تتخذ الاسبابَ المطلوبة ففيها والملهَمَة إليها بتحركها.
(١٨٢) أول الآية: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}. سورة يوسف الآية ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>