المكابرة؛ لأنَّ الحسَّ يشهد على أنَّ ساحة الحجرة إذا كانت تقارب مسافة الجدار، فإنَّ الشَّمس لا تكون في ذلك القدر الزائد على مسافة الجدار إلَّا عند ارتفاع الشمس، فقول العيني: وهذا يُعلم بالمشاهدة، غير مسلَّم؛ لأنَّ المعلوم بالمشاهدة خلاف ما قاله، فالحديث حُجَّة على من خالف ذلك، والله أعلم. انتهى.
فإن قلت: عقد البخاري بابًا لوقت العصر، وذكر فيه أحاديث لا يدلُّ واحد منها على أنَّ أوَّل وقته بماذا يكون؟، بصيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثليه أو مثله.
قال شيخنا: كأنَّ المؤلف لما لم يقع له حديث على شرطه من تعيين أوَّل وقت العصر، وهو مصير ظلِّ كلِّ شيء مثله، استغنى بهذا الحديث الدال على ذلك بطريق الاستنباط. انتهى.
وقد أخرج مسلم عدة أحاديث مصرحة بالمقصود، ولم ينقل عن أحد من أهل العلم مخالفة في ذلك إلَّا عن أبي حنيفة، فإنَّ المشهور عنه أنَّه قال: أوَّل وقت العصر مصير ظلِّ كلِّ شيء مثليه بالتثنية، قال القُرْطُبي: خالفه النَّاس كلَّهم في ذلك حتَّى أصحابه - يعني الآخذين عنه - وإلَّا فقد انتصر جماعة ممن جاء بعدهم فقالوا: ثبت الأمر بالإبراد، ولا يحصل إلَّا بعد ذهاب اشتداد الحرِّ، ولا يذهب في تلك البلاد إلَّا بعد أن يصير ظلُّ الشيء مثله، فيكون أوَّل وقت العصر عند مصير ظلِّ الشيء مثليه. وحكاية مثل هذا يُغني عن ردِّه. انتهى.
وقال العَيني: لا يلزم من عدم وقوعه له ألَّا يقع لغيره في تعيين ذلك.
وقد روى جماعة من الصحابة في هذا الباب منهم ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم: ((أمَّني جبريلُ عليهِ السَّلام عندَ البيتِ مرَّتَين)) الحديث، وفيه:((صلَّى بِي العصرَ حينَ كانَ ظلُّه مثلَه)) هذا في المرَّة الأولى، وقال في الثانية:((وصلَّى بي العصرَ حينَ كانَ ظلُّه مثليه)) أخرجه أبو داود والتِّرْمِذي وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن خُزَيمَة في «صحيحه»، وقال ابن عبد البرِّ في «التمهيد» : وقد تكلَّم بعض النَّاس في حديث ابن عبَّاس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلُّهم مشهورون بالعلم، قال العَيني: هذا الحديث هو العمدة في هذا الباب.
وقوله:((حِيْنَ كَانَ ظِلُّهُ مِثْلَيْهِ)) بالتثنية، وهذا آخر وقت الظُّهر عند أبي حنيفة؛ لأنَّ عنده إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثليه سوى فيء الزوال يخرج وقت الظُّهر ويدخل وقت العصر، وعند أبي يوسف ومحمَّد: إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله يخرج وقت الظُّهر ويدخل وقت العصر، وهي رواية الحسن بن زياد عنه، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والثوري وإسحاق، ولكن قال الشافعي: آخر وقت العصر إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله لمن ليس له عذر، وأما أصحاب العذر والضرورات فآخر وقتها لهم غروب الشَّمس. وإذا كان استدلال أبي حنيفة بالحديث فما يضرُّه مخالفة النَّاس له، ويؤيِّد ما قاله أبو حنيفة حديث علي بن شَيْبان قال:((قدمْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ المدينةَ، فكانَ يؤخِّر العصرَ ما دامَتِ الشَّمس بيضاءٌ نقيةٌ)) رواه أبو داود وابن ماجه، وهذا يدلُّ على أنَّه كان يصلِّي العصر عند صيرورة ظلِّ كلِّ شيء مثليه، وهو حُجَّة على خصمه، وحديث جابر: ((صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ العصرَ حينَ صارَ