فإن قلت: حديث أبي موسى دلَّ على أنَّ الفريقين لم يأخذوا شيئًا، وحديث ابن عُمَر دلَّ على أنَّ كلًّا منهما أخذ قيراطًا، قال العَيني: ذلك فيمن ماتوا منهم قبل النسخ، وهذا فيمن حرَّف أو كفر بالنَّبِيِّ الذي بعث بعد نبيِّه. وقال ابن رُشَيد ما محصَّله: إنَّ حديث ابن عُمَر ذكر مثالًا لأهل الأعذار؛ لقوله:((فعجزوا)) فأشار إلى أنَّ من عجز عن استيفاء العمل من غير أن يكون له صنيع في ذلك أنَّ الأجر يحصل له تامًّا فضلًا من الله، وذكر حديث أبي موسى مثالًا لمن أخَّر من غير عذر، وإلى ذلك الإشارة بقوله عنهم:(لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ) فأشار بذلك إلى أنَّ من أخَّر عامدًا لا يحصل له ما حصل لأهل الأعذار.
وقال الخطَّابي: دلَّ حديث ابن عُمَر أنَّ مبلغ أجرة اليهود بعمل النَّهار كلِّه قيراطان، وأجرة النصارى للنصف الثَّاني من النَّهار إلى اللَّيل قيراطان، ولو تمَّموا العمل إلى آخر النَّهار لا يستحقوا تمام الأجرة وأخذوا قيراطين، إلَّا أنَّهم انخزلوا ولم يفوا بما ضمنوه فلم يصيبوا إلَّا ما خصَّ كلَّ فريق منهم من الأجرة وهو قيراط، ثمَّ إنَّ المسلمين لما استوفوا أجرة الفريقين معًا حاسدوهم وقالوا... إلى آخره، يعني قولهم:(أَيْ رَبَّنَا، أَعْطَيْتَ هَؤُلَاءِ قِيْرَاطَيْنِ...) إلى آخره، ولو لم تكن صورة الأمر على هذا لم يصحَّ هذا الكلام، ومن طريق أبي موسى زيادة بيان له، وقولهم:(لَا حَاجَةَ لَنَا) إشارة إلى تحريفهم الكتب وتبديلهم الشرائع وانقطاع الطريق بهم عن بلوغ الغاية، فحرموا تمام الأجرة لجنايتهم على أنفسهم حين امتنعوا من تمام العمل الذي ضمنوه.
(١٨)(بابُ وَقْتِ المَغْرِبِ) أي هذا باب في بيان وقت صلاة المغرب، ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله ظاهر لا يخفى.
قوله:(وَقَالَ عَطَاءٌ) أي ابن أبي رباح، ترجمته في باب عظة الإمام النساء.
قوله:(يَجْمَعُ المَرِيْضُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ) هذا التعليق وصله عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» عن ابن جُرَيج عنه.
قال شيخنا: وأشار - أي البخاري - بهذا الأثر في هذه الترجمة إلى أنَّ وقت المغرب يمتدُّ إلى العشاء، وذلك إنَّه لو كان مضيَّقًا لانفصل عن وقت العشاء، ولو كان منفصلًا لم يجمع بينهما كما في الصُّبح والظهر، وبهذه النكتة ختم الباب بحديث ابن عبَّاس الدال على أنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم جمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، وأما الأحاديث الَّتي أوردها في الباب فليس فيها ما يدلُّ على أنَّ الوقت مضيّق؛ لأنَّه ليس فيها إلَّا مجرد المبادرة إلى الصَّلاة في أوَّل وقتها، وكانت تلك عادته صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في جميع الصَّلوات إلَّا فيما ثبت فيه خلاف ذلك كالإبراد وتأخير العشاء إذا أبطؤوا كما في حديث جابر والله أعلم.
واختُلِفَ في المريض، هل يجوز له أن يجمع بين الصلاتين كالمسافر لما فيه من الرفق به أو لا؟ فجوَّزه أحمد وإسحاق مطلقًا، وأجازه بعض الشافعيَّة، وجوزه مالك بشرطه، والمشهور عن الشَّافعي وأصحابه المنع، ولم أر في المسألة نقلًا عن أحد