بعد اختلاطه، وإن صحَّ فهو شاهد لحديث أمِّ سلمة لكن ظاهر قوله:(ثمَّ لم يعد)، معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب، فيحمل النَّفي على علم الرَّاوي فإنَّه لم يطلِّع على ذلك، والمثبت يقدَّم على النافي، وكذا ما رواه النَّسائي من طريق أبي سلمة عن أمِّ سلمة:((أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم صلَّى فِي بَيْتِهَا بَعْدَ العَصْرِ رَكْعَتَيْنِ مرةً وَاحِدَةً)) الحديث، وفي رواية له عنها:((لم أره يصلِّيها قبل ولا بعد))، فيجمع بين الحديثين بأنَّه عليه السَّلام لم يكن يصلِّيهما إلَّا في بيته، فلذلك لم يرَه ابن عبَّاس ولا أمُّ سلمة، ويشير إلى ذلك قول عائشة في الرواية الأولى، وكان لا يصلِّيهما في المسجد مخافة أن يُثقل على أمَّته، قَالَ: وَقد روي عن غير وَاحِد: ((عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم: إنَّه صلَّى بَعدَ العَصْرِ رَكْعَتَيْنِ))، وَهَذَا خلاف مَا رُوِيَ أَنه نهى عَن الصَّلاة بعد العَصْر حتَّى تغرب الشَّمْس، وحديث ابن عبَّاس أصحُّ، حَيْثُ قَالَ: لم يعد لَهما.
قال شيخنا: وقد تقدَّم نقل المذاهب في ذلك، وأجاب عنه من أطلق الكراهة بأنَّ فعله هذا يدلُّ على جواز استدراك ما فات من الرواتب من غير كراهة، وأمَّا مواظبته عليه السَّلام على ذلك فهو من خصائصه، والدليل عليه رواية ذكوان مولى عائشة أي المتقدِّمة، قال شيخنا أيضًا قوله:(أنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ...) إلى آخره، وللإسماعيلي من طريق أبي زُرْعَة عن أبي نُعَيم شيخ البخاري فيه: إنَّه دخل عليها فسألها عن ركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه يعني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وزاد فيه أيضًا فقال لها أيمن: أنَّ عُمَر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلِّيهما فذكره؛ والخبر بذلك عن عُمَر أيضًا ثابت في رواية كُرَيب عن أمِّ سلمة؛ الَّتي ذكرنا أنَّها في باب اذا كلَّم وهو يصلِّي؛ ففي أوَّل الخبر عن كُرَيب: أنَّ ابن عبَّاس والمِسْوَر بن مَخرَمَة وعبد الرحمن بن أَزْهَر أرسلوه إلى عائشة فقال: ((اقرأْ عليها السَّلام منَّا جميعًا، وسلْها عنِ الركعتينِ بعدَ صلاةِ العصرِ، وقلْ لها أُخبرنا أنَّكِ تصلِّيهما، وقدْ بلغَنا أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نَهَى عنهما))، وقال ابن عبَّاس: وقدْ كنتُ أضربُ النَّاس معَ عُمَر عليها الحديث.
تنبيه: روى عبد الرزَّاق من حديث زيد بن خالد: سبب ضرب عُمَر النَّاس على ذلك، فقال عن زيد بن خالد: أنَّ عُمَر رآه وهو خليفة ركع بعد العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: يا زيد لولا أنَّي أخشى أن يتخذها النَّاس سُلَّمًا إلى الصَّلاة حتَّى اللَّيل لم أضرب فيهما، فلعلَّ عُمَر كان يرى أن النَّهي عن الصَّلاة بعد العصر إنَّما هو خشية إيقاع الصَّلاة عند غروب الشَّمس، وهو موافق قول ابن عُمَر الماضي، وما نقلناه عن ابن المنذر وغيره، وقد روى يحيى بن بكير عن اللَّيث عن أبي الأسود عن عُرْوَة عن تميم الدَّاري نحو رواية زيد بن خالد وجواب عُمَر له وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلُّون ما بين العصر إلى الغروب، حتَّى يمرُّوا بالسَّاعة الَّتي نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يصلَّى فيها، وهذا أيضًا يدلُّ لما قلناه والله أعلم.