يطلق لكلِّ من بادر بأيِّ شيء ٍكان في أي وقت كان، وأصله المبادرة بالشيء أوَّل النَّهار.
قوله: (فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الفاء للتعليل، وقد استُشكل معرفة تيقن دخول الوقت مع وجود الغيم؛ لأنَّهم لم يكونوا يعتمدون فيه إلَّا على الشَّمس، وأجيب باحتمال أنَّ بريدة قال ذلك عند معرفة الوقت؛ لأنَّه لا مانع في يوم الغيم من أن تظهر الشَّمس أحيانًا، ثمَّ إنَّه لا يشترط إذا احتجبت الشَّمس اليقين، بل يكفي الاجتهاد. انتهى.
قوله: (مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ العَصْرِ) زاد مَعْمَر في روايته: ((متعمدًا)) وكذا أخرجه أحمد من حديث أبي الدرداء، قال العَيني: كلمة (مَنْ) موصولة تتضمَّن معنى الشرط في محل الرَّفع على الابتداء، وخبره (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ودخول الفاء فيه لأجل تضمُّن المبتدأ الشرط.
قوله: (فَقَدْ حَبِطَ) سقط من رواية المُسْتَمْلي، وفي رواية مَعمَر: ((أَحْبَطَ اللهُ عملَهُ)). انتهى.
وقال العَيني: و (حَبِطَ) -بكسر الباء الموحدة- أي بطل، يقال: حَبِط يَحبَط من باب عَلِم يَعلَم، فقال: حبط عملُه وأَحبَطه غيرُه، وهو من قولهم: حَبِطَت الدابة حَبَطًا بالتحريك إذا أصابت مرعىً طيبًا فأفرطت في الأكل حتَّى تنتفخ فتموت. انتهى.
احتجَّ الحنفيَّة بهذا الحديث على أنَّ المستحبَّ تعجيل العصر يوم الغيم، واحتجَّ به الخوارج وجماعة من غيرهم على تكفير أهل المعاصي، قالوا: وهو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه} [المائدة: ٥]، وردَّ عليهم أبو عُمَر بن عبد البرِّ بأن مفهوم الآية: أنَّ من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، فيتعارض مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فإذا كان كذلك يتعيَّن تأويل الحديث؛ لأنَّ الجمع إذا كان ممكنًا كان أولى من الترجيح.
قال شيخنا: فتأوَّل الجمهور الحديث وافترقوا في تأويله فرقًا؛ فمنهم من أوَّل سبب الترك، ومنهم من أوَّل الحبط، ومنهم من أوَّل العمل، فقيل: المراد من تركها جاحدًا لوجوبها أو معترفًا لكن مستخفًّا مستهزئًا لمن أقامها، وتعقِّب بأن الذي فهمه الصحابي إنَّما هو التفريط، وبهذا أمر بالمبادرة إليها، وفهمه أولى من فهم غيره كما تقدَّم، وقيل: المراد مِن تركها متكاسلًا، لكن خرج الوعيد مخرج الزَّجر الشديد وظاهره غير مراد كقوله: ((لا يزني الزَّاني حينَ يزني وهوَ مؤمنٌ))، وقيل: هو من مجاز التشبيه، كأنَّ المعنى: فقد أشبه من حبط عمله. وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله.
وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، وكأنَّ المراد بالعمل الصَّلاة خاصة، أي لا يحصل على أجر من صلَّى العصر ولا يرتفع له عملها حينئذ، وقيل: المراد بالحبط الإبطال، أي يبطل انتفاعه بعمله في وقتٍ ما ثمَّ ينتفع به، كمن رجحت سيئاته على حسناته فإنَّه موقوف في المشيئة، فإن غفر له فمُجَرَّد الوقوف إبطال نفع الحسنة إذ ذاك، وإن عدت ثمَّ غفر له فكذلك، قال معنى ذلك القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدَّم مبسوطًا في كتاب الإيمان في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، ومحصَّل ما قال: أنَّ المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث.
وقال في «شرح الترمذي» : الحبط على قسمين: حبط إسقاط، وهو إحباط الكفر للإيمان وجميع الحسنات، وحبط موازنة، وهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النَّجاة فيرجع إليه جزاء حسناته.
وقيل: المراد بالعمل في الحديث